مـــــــــــــــــــــواعظ
من فضل الله على عباده تتابع مواسم الخيرات ومضاعفة الحسنات فالمؤمن يتقلب في ساعات عمره بين أنواع العبادات والقربات فلا يمضي من عمره ساعة إلا ولله فيها وظيفة من وظائف الطاعات وما أن يفرغ من عبادة إلا ويشرع في عبادة أخرى ولم يجعل الله حدا لطاعة العبد إلا انتهاء عمره وانقضاء أجله.
وبعد ان اتم الله لنا نعمة اكمال شهر الصيام والقيام ورتب عليه عظيم الأجر والثواب صيام ست أيام من شوال التي ثبت في فضائلها العديد من الأحاديث منها ما رواه الإمام مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال : ( من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر
المواضيع الأخيرة
بطاقات اسلامية
أدعية رمضانــــــــــية
تابع أدب الخيال في رسالة الغفران
صفحة 1 من اصل 1
تابع أدب الخيال في رسالة الغفران
طبيعة الخيال في رسالة الغفران:
لمّا جعل أبو نصر الفارابي (873-950م) التخييل غاية المحاكاة لخَلْق حالة من التأثير في نفس المتلقي؛ سواء أكان التخييل في الشيء نفسه أم في شيء آخر يضاهيه(27) كان المعري أكثر قدرة على ذلك حين جمع بين التخيل والتخييل؛ وزاد عليه في الإيحاء التصويري أنه ساق أفكاره في إطار من المناظرة والمقايسة حين ردَّ على أعدائه وخصومه؛ وأيَّد ما قاله بالبراهين والتجارب... فرسالة الغفران-في الأصل-ردٌّ على رسالة سابقة وردت إليه من ابن القارح (أبو الحسن علي بن منصور الحلبي...) وقد أملى المعري رسالته على كاتبه بمعرة النعمان سنة (424ه/1033م). وهي تعدّ-بحق-أعظم أثرٍ لغوي نقدي أدبي فني مؤلف في عقد واحد؛ نظمته مخيلة مبدعة لإنسان ما حتى يومنا... ويستند إلى ما يسمَّى اليوم بمفهوم (تراسل الفنون الأدبية: الرسالة-القصة-المشهد المسرحي)... وإن طغى عليه شكل الحكايات الصغيرة التي غدا فيها ابن القارح سارداً داخلياً-على الأغلب.
ومن ثم فرسالة الغفران نمط تأليفي بديع من نوع خاص ينتمي إلى الخيال الأدبي؛ فهي رحلة ذهنية خالصة تخيلها عقل المعري الفذ الذي انتقل فيها على جسر الثقافة الموسوعية من عالم الدنيا (الأزل) بكل حقبه الزمانية وكثير من البيئات المكانية إلى عالم الآخرة (الأبد) على تعدد أسمائه مثل (المحشر والصراط، والأعراف ثم الجنة والنار)؛ رحلة تتحرك فيها شخصيات الغفران بكل دقة وعناية، فتتجدد وعياً وفَهْماً وإلهاماً مع كل جيل من الأجيال حين تسوق الأشكال إلى أشكالها؛ وتثير في النفوس أفكاراً لا ينضب معينها، وعاطفة لا يخبو أوارها... إنها فن خلاّق ومثير في الخيال الأدبي لا تبلى جدته على مَرّ الدهر.
وقبل أن نتلمس ذلك كله نذكِّر بأن اسم (الغفران) أُخذ من إجابة كل شخص أدخله أبو العلاء الجنة؛ إذ كان يسأله: بِمَ غُفر له حتى كان من أهلها؟ ثم يعقد له ذلك بمشيئة الله(28). أما اسم (الرسالة) فقد جاء من كونها رسالة جوابية على رسالة لابن القارح أرسلها إليه. وهو يطلق عليها هذا الاسم في مواضع عدة؛ كما في قوله: "وقد وصلت الرسالة التي بَحْرها مَسْجُور، ومَنْ قرأها مأجور، إذ كانت تأمر بتقبُّل الشرع؛ وتعيب من ترك أصلاً إلى فرع... فقد غُرس لمولاي الشيخ... شجر في الجنة لذيذ اجتناء"(29).
وكذلك هو من أطلق عليها اسم (القصة) على لسان شخصيته الرئيسية (ابن القارح) حيث يقول: "أنا أقص عليك قصتي"(30)؛ أي حكايتي، وروايتي وخبري. ومن ثم نجد في ثنايا أي قصة يسردها في (الغفران) جملة من مشاهد تخيلية أو تخييلية طريفة ومدهشة تجنح جنوحاً مسرحياً حياً، كما نعرفه اليوم في الفن المسرحي.
وبناء على ذلك فلسنا نشك في أن رسالة الغفران تقع في قسمين: الأول؛ أتى-في طبعة د. بنت الشاطئ-بعد رسالة ابن القارح (129-379) وفيه تحركت شخصية ابن القارح من الأزل إلى الأبد في عالم عجائبي تخييلي أكثر مما هو تخيلي واقعي، والثاني جاء من (381) إلى (584)؛ وظهرت فيه ثقافة المعري العظيمة وقدرته على المعارضة والتحليل والسخرية من ابن القارح... على حين أن المتعارف عليه في المراسلة إظهار المجاملة والتلطف؛ لا الثورة العنيفة المبطنة على صاحب الرسالة الأولى...
ومن هنا نقول: إن الناظر المتعجل لبنية (الغفران) وما عرفه الناس من نظام الرسائل الإخوانية-بما فيها الجوابية-يدرك أن بنية الرسالة اتجهت اتجاهاً جديداً في الحجم أو الطول... فقد جرت مجرى الكتب... ولم يغفل صاحبها عن طولها بعد أن لمس هذا في نهاية القسم الأول فقال: "وقد أطلت هذا الفصل، ونعود الآن إلى الإجابة عن الرسالة".(31)
فالقسم الأول لم يخلص لفن الرسالة-وكذا الثاني-بأي شكل من الأشكال؛ وإنما مثّل الفن القصصي بكل تجلياته المعروفة اليوم من دون أن ينفصم عن طبيعة أبي العلاء وثقافته، وطبيعة عصره وبيئته... مما يعني أنه لم يتحرر من نظام الرسائل وقواعده المعروفة في زمانه تحرراً كلياً وكاملاً. فقد فرض المضمون المعالج مادته وشكله على المعري؛ مما جعله يجمع بين عدة فنون أدبية تتراسل فيما بينها لتلبية الغرض المقصود. وكان عقل المعري الصَّنَاع القادر على التخييل والجمع والتوفيق وراء ذلك، إذ استجاب للإبداع حين اعتمد على قانونين اثنين:
1- قانون الإخبار المستند إلى مبدأ التداعي الفني الأخاذ الذي أجاد بوساطته عملية الاسترجاع (الارتداد إلى الماضي) وعملية تحطيم الزمن المستقيم (الأزل-الأبد)؛ بوساطة الزمن الدائري، فتحول بآلياته الفنية تحولات زمانية وموضوعية عديدة ليقدم لنا مادة ثقافية عربية موسوعية؛ فضلاً عن التقنيات القصصية. فلما أدخل ابن القارح المحشر وسار به بزمن مستقيم إلى الجنة، ومن ثم تنقل في أنحائها؛ وانتهى إلى النار عاد وفق آليات الزمن الدائري إلى الأعراف... وعرض فيها جملة من المشاهد الحية المشبعة بالآراء والأخبار واللغة والنقد...
2- قانون التصوير الوصفي، وهو يقترب مما يعرف اليوم بالسرد الموضوعي، إن لم يكن نظيراً له... فمفهوم التصوير عند المعري أداته الأساسية لإبراز قدرته على النسيج التأليفي من جهة؛ وإظهار فكرة التحدي إلى أشرنا إليها سابقاً؛ باعتبار القوى الدفينة في نفسه وفكره من جهة أخرى.
ومن هنا تحدونا الرغبة إلى البرهنة على ذلك؛ مما يُلزمنا بالعودة إلى بداية الرسالة، ومن ثم نتعقب ما يؤيدنا فيما نذهب إليه.
قلنا: إن رسالة الغفران ردٌّ جوابي على رسالة ابن القارح التي بعث بها إلى المعري يعتذر فيها عن ضياع رسالة الأديب أبي الفرج الزَّهْرجيّ؛ التي سرقت منه في الطريق وكانت موجهة إلى المعري.(32) ثم أخذ ابن القارح يزكي نفسه عند المعري، ويعرّفه بمدى علمه، ويبين مقدار حفظه للأخبار والأشعار واللغة والفقه والحديث والقرآن الكريم... وقد جاء الردُّ في القسم الثاني خاصة، وفيه حمل على ابن القارح وتهكم منه تهكماً شديداً ومبطَّناً؛ دلَّ على مدى حنقه عليه وثورته اللاذعة منه؛ ولا سيما أن أبا العلاء استشعر عنده الشكوى والنقد للأدباء والعلماء الموثوق بهم؛ كقوله: "وأما الذين ذكرهم من المُصَحِّفين فغير البَررة ولا المنصفين. وما زال التَّتْفُل يعرض لأذاة الأسد؛ وما أحسبه يشعر بمكان الحسد"(33).
فليس هناك من ريب في مدى ما تحمله عبارة المعري من تهكم ساخر بابن القارح حين نعته بالأسد الذي يتعرض له الثعلب بالأذى... فالمعري رأى منه نوعاً من التفاخر والخيلاء؛ فلجأ إلى هذا الأسلوب الفني الملغز والبديع. وأيقن بذلك حين نظر في قوله: "كنت أدرس على أبي عبد الله بن خالويه... وأختلف إلى أبي الحسن المغربي؛ ولما مات ابن خالويه سافرت إلى بغداد؛ ونزلت على أبي علي الفارسي؛ وكنت أختلف إلى علماء بغداد: إلى أبي سعيد السِّيْرافي؛ وعلي بن عيسى الرُّمَّاني؛ وأبي عبد الله المَرْزُباني، وأبي حَفْص الكَتَّاني صاحب أبي بكر بن مجاهد. وكتبت حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وبلَّغْتُ نفسي أغراضها... ثم سافرت إلى مصر"(34). وعدَّد من لقيهم فيها وأخذ عنهم... ثم عرض لمحاورة له مع أبي القاسم بن أبي الحسن المغربي علي بن الحسين استطال فيها بذكائه وشعره: (قال أيْ أبو القاسم: لي ليلة: أريد أن أجمع فيها أوصاف الشمعة السبعة في بيت واحد؛ وليس يسنح لي ما أرضاه. فقلت: أنا أفعل هذه الساعة. قال: أنت جُذيلُها المحكَّك؛ وعُذَيقُها المُرَجَّب. فأخذت القلم من دواته وكتبت بحضرته:
لقد أَشبهَتْني شمعةٌ في صبابتي *** وفي هول ما ألقى وما أَتوقَّعُ
نحولٌ، وحَرْق؛ في فناءٍ، ووحدةٍ *** وتسهيدُ عَيْنٍ، واصفرار، وأَدمُعُ
فقال: كنتَ عملتَ هذا قبل هذا الوقت!! فقلتُ: تمنعني سرعة الخاطر وتعطيني علم الغيب؟!!).(35)
ولذلك طفق المعري يسخر من ابن القارح، ويتهكم منه بأساليب حكائية عديدة تمد بينها وبين الخيال العجائبي، والخيال التصويري الموحي حبالاً متينة... وعمد إلى هذا منذ افتتاح الرسالة؛ ولا سيما أنه مزج ذلك بالأدعية الكثيرة التي تشي بالسخرية اللاذعة منه؛ كقوله: "قد علم الجَبْر الذي نُسب إليه جَبْرئيل... أن في مسكني حَماطةً؛ ما كانت قط أَفانيةً... تثمر من مودة مولاي الشيخ الجليل-كبَت الله عدوَّه، وأدام رواحه إلى الفضل وغُدُوَّه-ما لو حملَتْه العالية من الشجر لدنت إلى الأرض غصونها"(36).
فهذه المقدمة قد تخدع بصيغها التعبيريةِ المباشرةِ القارئَ المتعجل؛ وقد يوقن بأنها رسالة جوابية إخوانية تحمل من الثناء على ابن القارح ما تحمله من الإجلال... فمنهجها منهج ترسلي عربي خالص قائم على مبدأ (الاستطراد) الذي ساعده على مزجه بفنون أخرى في عقده لرحلة ابن القارح من الأزل إلى الأبد (الحشر فالصراط... ثم الجنة)... وقد يقول قائل-أيضاً: إن التكنية عن حَبَّة القلب بنوع من الشجر يسمى (الحماطة)؛ أو بألفاظ (الحَِضْب) و(الأسود) ينتمي إلى ما يعرف عند العرب بالإلغاز البديعي ليس غير... مما يجعلها لا تخرج عن مفهوم الترسل، ومن ثم ليست بعيدة الإيحاء التصويري.
وهذا يدعونا إلى التأمّل الواعي في تلك المقدمة، فالحماطة ليست كناية عن حبة القلب؛ وإنما هي "ضَرْب من الشجر؛ يقال لها إذا كانت رَطْبة: أَفانيةٌ، فإذا يبست فهي حماطة... وتوصف بإِلْف الحيَّات لها".(37) وكذا يكون معنى (الحَِضْب) الضخم من ذكور الأفاعي في قوله: "وإنَّ في طِمْريَّ لحَِضْباً وُكِّل بأَذاتي... يضمر من محبة مولاي الشيخ الجليل-ثبَّت الله أركان العلم بحياته-ما لا تضمره للولد أُمٌّ، أكان سُمُّها يُدَّكر أم فُقد عندها السُّم... وقد علم-أدام الله جمال البراعة بسلامته-أن الحضب ضرب من الحيَّات، وأنه يقال لحَبَّة القلب حضب، وإن في منزلي لأَسْودَ هو أَعزُّ عليَّ من (عنترة) على (زبيبة)..."(38).
فإذا تذكرنا أن من معاني (الأَسْود) معنى الحيَّة العظيمة الخبيثة النكراء، ومن ثم أعدنا النظر في اشتمال المقدمة السابقة على (الحماطة) الملتفة الأغصان اليابسة الأعواد التي تألفها الحيات، وعلى (الحضب) باعتباره صورة للأفاعي الضخام التي تألف هذا النوع من الشجر-ولا سيما أنه وكِّل بأذاته، إذ شاكل بين سمها ولبن الأم، وعلى (الأَسْود) وهو نوع منكر خبيث من الحيَّات التي تألف المنازل... نقول: إذا أعدنا النظر فيها أدركنا؛ بما لا يقبل الشك؛ أنه ما أراد بذلك كله الإِلغازَ البديعي على الحقيقة؛ أي لم يكنِّ بها عن حبة القلب التي تعني المودة والمحبة... وإنما كانت صورة فكرية ونفسية متخيلة توحي بأنها تحيَّة مُتّشحة بالسواد؛ ومشحونة بأنفاس الحيّات الخبيثة المؤذية...
وإذا كنا-جميعاً-لم نعهد مثل هذه المشاكلة المعنوية مع حبَّة القلب-من قبل عند غير أبي العلاء-أيقنا بأنها تحيَّة رمزية خيالية تشي بأبعاد كثيرة... فهذا الاستهلال الخيالي التصويري إنما يشاكل ما انطوت عليه رسالة ابن القارح من خُبْث ونفاق؛ وتلون ورياء، وتبجّح وادعاء، وما ترسيه من زهو وتعالٍ... فشأن ابن القارح لا يخفى على المعري؛ فليس هو بالخِبّ الذي يُخْدَع بظاهر الكلام؛ فكيف به وقد هجا ابن القارح الشيخ المبجل أبا القاسم، حيث خاطب فيها المعري بقوله: "بلغني عن مولاي الشيخ-أدام الله تأييده-أنه قال-وقد ذُكرت له: أعرفه خَبَراً، هو الذي هجا أبا القاسم بن علي بن الحسين المغربي. فذلك منه-أدام الله عِزَّه-رائع لي؛ خوفاً أن يستَشِرَّ طبعي، ويتصورني بصورة من يضع الكفر موضع الشكر... وأنا أُطلعه طِلْعَه ليعرف خَفْضه ورفعه، وفَراده وجمعه".(39) ثم ذكر الخبر الأسبق المثبت من قبل في الحاشية الخامسة والثلاثين.
فلم يعد هناك ما يثير الجدل في أن المعري إنما وضع هذه المقدمة الخيالية المثيرة شكلاً ومضموناً ليسخر من ابن القارح بأسلوب ملغز لم يعهده الناس؛ فضلاً عما توحي به الأدعية التبجيلية الكثيرة بقرينة الضدية-علماً أن كل شيء زاد على حده انقلب إلى ضده (40)... وكذلك حين استخدم كثيراً من الآيات القرآنية التي يدل بسياقها على معنى التهكم الشديد منه. ويطالعنا هذا كله منذ بداية الرسالة، إذ وصف رسالة ابن القارح بأن الله-سبحانه-"قد نصب لسطورها المُنْجية من اللهب معاريجَ من الفضة أو الذهب؛ بدليل الآية: {إليه يصعد الكَلِمُ الطيب والعمل الصالح يرفعه} (فاطر 40/10)"، ثم ربط هذا بشجرة (ذات أَنْواط) التي كان يعظمها الجاهليون...
فإذا أغفلنا-الآن-هذا التصوير الخيالي (التخيلي والتخييلي) الطريف الممتع لوصف رسالة ابن القارح فإننا لا نغفل ما يدل عليه من ازدراء تهكمي له؛ علماً أن التهكم والسخرية ينتجان عن "حالة نفسية هادئة أميل إلى الطبع الفلسفي"(41)؛ وهو ما ينطبق عليه طبع أبي العلاء المعري.
________________________________________
(1) انظر مثلاً: معجم الأدباء 3/107-217 ووفيات الأعيان 1/113 واللزوميات (لزوم ما لا يلزم) 1/5 وما بعدها؛ والأعلام 1/115 و157 و8/121، والفن ومذاهبه في النثر العربي 265-274 وجديد في رسالة الغفران 20-22 و30-39 و43-44 و47-50، وفي الميزان الجديد 144-149 وتاريخ النقد الأدبي 387- 392 والسخرية في الأدب العربي 242-257 ونقد الشعر في آثار أبي العلاء 3-12.
(2)انظر مثلاً: معجم الأدباء 3/107-217 ووفيات الأعيان 1/113 واللزوميات (لزوم ما لا يلزم) 1/5 وما بعدها؛ والأعلام 1/115 و157 و8/121، والفن ومذاهبه في النثر العربي 265-274 وجديد في رسالة الغفران 20-22 و30-39 و43-44 و47-50، وفي الميزان الجديد 144-149 وتاريخ النقد الأدبي 387- 392 والسخرية في الأدب العربي 242-257 ونقد الشعر في آثار أبي العلاء 3-12.
(3) اللزوميات 1/42. الباء: الزواج أو النكاح.
(4) انظر مثلاً: معجم الأدباء 3/107-217 ووفيات الأعيان 1/113 واللزوميات (لزوم ما لا يلزم) 1/5 وما بعدها؛ والأعلام 1/115 و157 و8/121، والفن ومذاهبه في النثر العربي 265-274 وجديد في رسالة الغفران 20-22 و30-39 و43-44 و47-50، وفي الميزان الجديد 144-149 وتاريخ النقد الأدبي 387- 392 والسخرية في الأدب العربي 242-257 ونقد الشعر في آثار أبي العلاء 3-12.
(5) راجع مصادر حاشية(1).
(6) انظر مثلاً: في الميزان الجديد 129 وما بعدها و138 وما بعدها، ونقد الشعر في آثار أبي العلاء 24-50.
(7) هناك عدد من الأبحاث التي عالجت آثار أبي العلاء وحياته، منها:
1- مع أبي العلاء في سجنه-د. طه حسين-القاهرة-1939م.
2- تجديد ذكرى أبي العلاء-د. طه حسين-دار الكتب المصرية-القاهرة-1944م.
3- أبو العلاء ناقد المجتمع-زكي المحاسني-دار المعارف-بيروت-1947م.
4- فلسفة أبي العلاء-حامد عبد القادر-القاهرة-1950م.
5- أبو العلاء زوبعة الدهور-دار مارون عبود-بيروت-ط1/1962م/ وط3 1970م.
( هناك حركة نقدية وتأليفية صدرت في كتب أو في دوريات ناقشت قضايا كثيرة من آثار أبي العلاء وحياته، منها:
1- رجعة أبي العلاء-عباس محمود العقاد-دار الهلال-مصر.
2- رسالة الغفران-أحمد راتب النفاخ (نقد لما في طبعة رسالة الغفران لبنت الشاطئ) مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق (- مج 32-ج4-ص685-عام 1957م) و(مج 33-ج1-ص146-عام 1958م).
3- في الميزان الجديد-د. محمد مندور-دار نهضة مصر-القاهرة-1973م.
4- محاورات طه حسين-د. توفيق أبو الرب-وزارة الثقافة-عمّان-1994م.
(9) انظر تفصيل ذلك كله في (معجم الأدباء 3/123- 124 و143-145 والأعلام 4/278 وجديد في رسالة الغفران 25-29 و40-43).
(10) سقط الزند 39. الصماء: الداهية الشديدة. وصمَام: من أسماء الداهية؛ (اسم مبني على الكسر). هَمَام: أي مهموم، (اسم مبني على الكسر).
(11) سقط الزند 46.
(12) انظر الرثاء في الجاهلية والإسلام 68 وما بعدها.
(13) انظر قصيدته في رثاء أبيه التي جاءت على روي (النون) في سقط الزند 13.
(14) اللزوميات 1/249. النبيث: الشرير، وهو من (نَبَث) أي أخرج.
(15) راجع مصادر الحاشية (1) مما تقدم.
(16) راجع مصادر الحاشية (1) مما تقدم.
(17) اللزوميات 1/43. الطبس: كورة، أو منطقة بخراسان، وهي في أرض جمهورية (إيران) اليوم.
(18) نقد الشعر في آثار أبي العلاء 18 وانظر الفن ومذاهبه في النثر العربي 305.
(19) انظر مصطلحات نقدية من التراث الأدبي العربي 233-239.
(20) لسان العرب-(صور).
(21) انظر لسان العرب-(خيل).
(22) أسرار البلاغة 231.
(23) أسرار البلاغة 239.
(24) منهاج البلغاء وسراج الأدباء 90.
(25) المرجع السابق 89 وانظر فيه 87-92.
(26) انظر مقدمة للشعر العربي 132 وقد فرَّق بين التخيُّل والتخييل، والتخييل-عنده-أعمق وأشمل من الخيال.
(27) انظر مصطلحات نقدية 234 –235.
(28) انظر جديد في رسالة الغفران 77، ورسالة الغفران: أحمد راتب النفاخ-1/152 وراجع مضمون الحواشي الآتية (46و47و55و71و75و76).
(29) رسالة الغفران 139 –140.
(30) رسالة الغفران 248.
(31) رسالة الغفران 379.
(32) ورد اسم الزهرجي في رسالة ابن القارح: ص26، وفي ردّ المعري: ص404.
(33) تأمل رسالة المعري الجوابية، ولا سيما القسم الثاني: 381-584، وانظر السخرية في الأدب العربي 242-257.
(34) رسالة الغفران 56-57 وانظر ما قاله مندور: (في الميزان الجديد 142-145).
(35) رسالة الغفران 59-60.
(36) رسالة الغفران 129-130 وانظر تجديد ذكرى أبي العلاء 133.
(37) رسالة الغفران 130.
(38) رسالة الغفران 131-132 وانظر رسالة الغفران: أحمد راتب النفاخ 686/ مج32؛ إذ لا يجوز فتح همزة (إن) في ذلك لاقتران اللام باسمها؛ وانظر جديد في رسالة الغفران 62-65.
(39) رسالة الغفران 55-56 وانظر ترجمة ابن القارح في معجم الأدباء 15/83-88.
(40) تأمل-عزيزي القارئ-الأدعية التي وردت في أمثلتنا السابقة؛ وفي رسالة الغفران مثل (168و172و206و207و208...) وانظر القسم الخاص عن (سخرية أبي العلاء) في كتاب (السخرية في الأدب العربي) 242-257 وتأمل ما يأتي من البحث.
(41) انظر في الميزان الجديد 144 وراجع رسالة الغفران 141-142 وتأمل كيفية ذكره لذات أنواط.
إذن، نهض ما تقدم بإثبات أن الأدعية المُوجهة إلى ابن القارح ليست إعجاباً به كما ذهب إليه الدكتور شوقي ضيف(1)؛ وإنما هي إمعان في التخيّل الفني الساخر منه. ويؤيد هذا كثرة معارضات المعري الثقافية له بما تحمله من أخبار وأشعار وآراء لغوية... وما عرض له من الآيات والأحاديث... وقد يظهر ذلك الازدراء والاستهزاء بابن القارح بشكل واضح، كما نراه حين وصف لنا اعتذاره عن سرقة رسالة أبي الفرج الزَّهْرَجيّ؛ وكان ابن القارح قد قال: "فسرق عَديلي رَحْلاً لي؛ الرسالة فيه؛ فكتبت هذه الرسالة أشكو أموري؛ وأَبثّ شُقُوري، وأُطلعه طِلْع عُجَري وبُجَري"؛ فقال المعري: "وددت أن الرسالة وصلت إليّ، ولكن ما عدل ذلك العَديل؛ فبَعِد ما تغنَّى هَديل؛ هلاَّ اقتنع بنفقة أو ثوب، وترك الصحف عن نَوْب؟!! فأَرِب من يديه، ولا اهتدى في الليلة بفَرْقديه. لو أنه أحد لصوص العرب الذين رُويت لهم الأمثال السائرة، وتحدَّث بهم المُنْجِدة والغائرة لمَا اغتفرت ما صنع بما نظم؛ لأنه أَفْرط وأَعظم؛ أي أتى عظيمة، وبَتَك من القلائد نظيمة".(2)
فهذا المقطع جزء من مقدمة الرسالة الجوابية (القسم الثاني)، وفيه استعمل الدعاء على وجه أكثر وضوحاً من غيره... وهي مقدمة مغايرة لكل ما ألفناه من مقدمات الرسائل عند العرب؛ وكذلك لم تعرف الأمم الأخرى لها نظيراً... مقدمة بنيت على شخصية ابن القارح ورسالته؛ فهو يعرض لأماكن بعينها كان يقتنص ابن القارح فيها لذاته كما يبرر من عرضه لقصّة امرئ القيس... وكأنه يحدثنا عن حال صاحبه ابن القارح... مما يؤكد أن شخصية ابن القارح هي الشخصية المفتاح للأدب الخيالي الجمالي والعجائبي البديع، وهي الشخصية الرئيسية بما حملته من أحداث وحكايات ورؤى فكرية وفنية، ورموز مكثفة معبرة عن السر الأبدي للقلق الإنساني من المصير... إنها مشبعة برؤى المعري المشتملة على حكمة عالية لتبصير الإنسانية بالحياة والآخرة... فهي حاملة لأفكاره وثقافته ومشاعره، ومخاوفه وأحلامه؛ ما كان منها مكبوتاً في نفسه، أو ما يتقوّله الناس عليه... ولا سيما أنه يتهيأ لاستقبال عالم الآخرة البعيد كل البعد عن عالم الدنيا... ولا علم له به إلا ما ثقِفَه من معتقدات الدين الحنيف، وحازته ذاكرته من معارف وتجارب وهو يودّع عقده السادس من العمر، ويشرف على السابع... فمكابدته للحياة والمجتمع، والناس، وبخاصة بعض القرّاء والفقهاء والمتصوفة واللغويين... جعلته حزيناً منكفئاً على ذاته التي ارتهنها في بيته جسداً لا فكراً... هذا الانكفاء الذي حرَّض عقله في مثل هذه السن على تأمل المصير الإنساني هو الذي كوّن عالمه الخاص الذي ظهر بقوة في رسالته... لهذا جاء عالمه مشتتاً مليئاً بالتناقضات الفكرية والعاطفية، مما أدى بعالم الآخرة إلى الاتصاف بالتباعد والتنافر. ونضيف إلى ذلك أن شخصية ابن القارح تختلف عن الشخصية المفتاح (محمد بن أبي بكر) في (رسالة التوابع والزوابع) لابن شُهَيْد الأندلسي (أحمد بن عبد الملك بن أحمد بن شهيد من بني الوضّاح: 382-426ه/ 992-1035م) التي لم يعرف منها إلا اسمها في بدايتها؛ وكذا تختلف الشخصيات والأحداث والبناء. فالمعري تشدّد في السبب الذي يدخل أي شخصية الجنة أو النار؛ ويعلل ذلك بكثير من التحليل والوصف المشهدي الخيالي... فما نال الجنة من نال؛ ولا استحق النار من استحق إلا بعمله الصالح ونيته النقية الصافية، وقوله السديد المحكم العفيف، وتوبته النصوح... ومن ثم برحمة الله وسَعة عفوه، بقطع النظر عما اشتُهر به في حياته، وما فعله الناس بحقه؛ وإن رموه بالزندقة، أو اتهموه بالكفر والإلحاد.
وكذلك علَّل إدخاله لبعض الجاهليين-أهل الفَتْرة-جنة الغفران؛ وعدد من اللغويين-وإن كان على عداء شديد مع أكثرهم-ويؤكده قوله: "وكأني به-أدام الله الجمال ببقائه-إذا استحق تلك الرتبة بيقين التوبة؛ وقد اصطفى له ندامى من أدباء الفردوس كأخي ثُمَالة وأخي دَوْس، ويونس بن حبيب الضَّبّي وابن مَسْعدة المجاشعي. فهم كما جاء في الكتاب العزيز: {ونزعنا ما في صدورهم من غِلّ إخواناً على سُرُرٍ متقابلين...} (الحجر 15/47)؛ فصَدْرُ أحمد بن يحيى هنالك قد غُسل من الحقد على محمد بن يزيد فصارا يتصافيان ويتوافيان".(3)
وقبل أن نشير إلى ما يدل عليه هذا النص من فكرة الإرجاء؛ نؤكد مرة أخرى أن شخصية ابن القارح بما فيها من شهوات ونزوات وخبث ونفاق كانت مفتاح بناء الغفران فاختلفت-كما قلنا قبل قليل-عن الشخصية المفتاح في (رسالة التوابع والزوابع) تناولاً وطبيعة وبناء فنياً كاختلاف الشخصيّات الأخرى. وعلى الرغم من صفات تلك الشخصية، وبما فيها من عبث ولهو وتعهر فقد أدخلها المعري جنة الغفران بمشيئة الله ورحمته، وكذا فعل مع بعض متعهري الشعراء. وبها عقد لها الرحلة من الأزل إلى الأبد لقوله: "فقد غُرس لمولاي الشيخ الجليل-إن شاء الله-بذلك الثناء شجر في الجنة لذيذُ اجتناء..."(4).
فأبو العلاء اعتمد على فكرة الإرجاء في إدخال ابن القارح الجنة؛ وعقده برحمة الله ومشيئته؛ لا بعمل العبد؛ بينما أدخل الملحدين والزنادقة جميعاً في نار جهنّم؛ يصطلون فيها؛ فأذاقهم حَرَّ سعيرها، وسلط عليهم زبانيتها... ولما ناقض بهذا العمل فكرة الإرجاء فإنما عقده أيضاً بمشيئة الله، كما فعل مع بشار بن بُرْد، حين قال فيه: "والله العالم بحقيقة الأمر-ولا أحكم عليه-بأنه من أهل النار، وإنما ذكرت ما ذكرت؛ لأني عقدته بمشيئة الله"(5).
وبهذا فإن المعري قد تنازعته أفكار شتى في رسالته التي اشتملت على معتقدات دينية وفلسفات عديدة وثقافات متنوعة... وعرض لفكرة الجبر في مواضع شتى كما ذكرناه وكما نراه في قوله: "والتوفيق يجيء من الله سبحانه وتعالى بإجبار؛ وفيما خوطب به النبي (صلى الله عليه وسلم): {ووجدك ضالاً فَهدى} (الضّحى 93/7)" وكذلك شن حملة على مَنْ يدعي معرفة الغيب؛ كقوله: "وما آمَنُ أن تكون الآخرة بأرزاق.. على أن السر مُغَيَّب، وكلنا في الملتمس مُخَيَّب، والجاهل-وفوق الجاهل-من ادّعى بغِبّ المناهل، واللعنة على الكاذبين".(6)
ولعل موقف المعري من الملحدين والزنادقة يبرئه من تهمة الزندقة التي أُلصقت به؛ علماً أنه لم يدخل أحداً من أحبته في رحلة الغفران إلى الآخرة، مما يؤكد لنا موضوعيته. ولعله شغل عنهم بهمومه وهواجسه وأمانيه وآرائه المتعددة؛ وهي ؟؟؟ بالحدة والتطرف في بعض الأحكام والتصرفات... ولهذا سعى إلى كسر القيود التي شلت حركته نصف قرن من الزمان... ولا سيما حين جعل العميان مبصرين يرون كل شيء في عالم الآخرة كبشار والأَعْشين... وحين فك عزلته وطاف مع ابن القارح في الجنة والنار، وسافر معه في الأزمنة والأمكنة فعوض فيها عن كل ما فقده في حياته... ثم إنه لم يكتف بتحطيم المتعارف عليه من الثقافات والفلسفات والمذاهب في رسالته وإنما حطم كل نظام تأليفي عرفه العرب... ليلائم الضروب الفكرية؛ والنفسية والاجتماعية التي رغب فيها... فقد حطم فكرة القهر الاجتماعي، وفكرة الحبس الطوعي؛ وفكرة الرقيب الديني والخلقي والذاتي... وبنى أفكاراً جديدة تحقق له كل ما يصبو إليه بوساطة عالمه التأليفي الخيالي الحر... فجنة الغفران مملوءة بالحركة والصوت... والغناء والرقص... وفيها كل ألوان المتع والشهوات المادية التي حرم منها في الدنيا... وجعل سبيله إلى إشباع رغباته في جنيته شخصيةَ ابن القارح؛ هذه الشخصية التي اتصفت حياتها بالشهوانية المغرقة في صبواتها؛ وكذلك هي الجنة ترتشف الرضاب من الحوريات.(7)
إنه يرسم صورة الجنة-على ما فيها من الاقتداء بالتصور الإسلامي-كأنها صورة منتزعة من حياته وحياة ابن القارح؛ فيها الصدّ والإقبال، والصد والزيارة؛ والرضا والغضب، والعقوق والبر؛... هي عالم لا متناهٍ من الخيبة والرجاء، والهواجس والهموم... وفكره فيها مبتلىً بالنسيان والغفلة بعكس ما عرف عنه في دنياه... وخمرها لذيذة تريح شاربها من دون غَول كما يصفها بقوله: "تلك هي الراح الدائمة؛ لا الذميمة ولا الذائمة، بل هي كما قال علقمة:
تَشفي الصُّداع، ولا يُوْذيه صالبُها *** ولا يخالط منها الرأسَ تَدْويمُ
ويعمد إلهيا المغترف بكؤوس من العَسْجد، وأباريق خُلقت من الزَّبَرْجد، ينظر منها الناظر إلى بَدِيّ، ما حلم به أبو الهندي-رحمه الله-فلقد آثر شراب الفانية، ورغب في الدنيَّة الدانية".(
ويمكن للمتأمل في هذا النص أن يلمس مدى حسرة المعري على خيبته في تصيّد مُتَع الدنيا التي عرفها أبو الهندي، ولذلك آثر أن يدَّخر حقه فيها إلى الآخرة... وكذلك نستشعر هذا الحُلُم المثير في قوله: "ويعارض تلك المُدامة أنهار من عسل مُصَفّىً ما كسبته النحل الغادية إلى الأنوار، ولا هو في مُوْم مُتَوارٍ، ولكن قال له العزيز القادر: كُنْ فكان، وبكرمه أعطى الإمكان. واهاً لذلك عسلاً"؛ ثم يستشهد بآيات من القرآن الكريم في وصف نعيم الجنة.(9)
ولو توقف أحدنا متأملاً النص السابق ومستشعراً إيماءاته النفسية لقبض بيده على الحسرة الحارقة في كلمة (واهاً)، ومن قبلُ في التصوير الخيالي البديع لأنهار العسل؛ وغُدُوّ النحل إلى الأزهار ورواحها، لإنتاج عسل عجيب في طعمه ومذاقه؛ وقد توارى في بيوته الشمعية... فمهمة التخيل لبَّت عنده ما حرم منه في دنياه من شرب العسل والخمر؛ ولما شرب الخمرة في الآخرة كانت صفتها متماثلة مع ما عرف عنها وعن العسل في المفهوم الإسلامي... ولعل ذلك هو المعروف في مفهوم علم النفس الحديث بفلسفة التعويض عن الحرمان... فهو يتخيل، ويرسم لوحات تعبر عن رغباته، وأحلامه وهمومه... لوحات خيالية للجنة التي تحقق له النعيم والمتع بعد أن آل شيخاً هرماً ضَعيف الجسم. ولكن ضَعف جسمه ونُحوله لم يفتّ في إرادته، ولم يوهن عقله... وقد ظهرت براعة عقله، وقوته في الذّخيرة اللغوية والنقدية والأدبية والفنية في رسالة الغفران... ودلت-أيضاً-على دراية عالية بفقه القراءات، ودقة متناهية في تحليل كثير من الآراء الفلسفية والدينية والفكرية... فهو-مثلاً-يتخيل الشخصية المفتاح والرئيسية في قصة الغفران تنتقل من عالم الأزل إلى عالم الأبد وفق مبدأ التداعي الفني؛ وبخط زمني مستقيم؛ ومن ثم يلجأ إلى الدوران الزمني والمكاني في روضات الحيَّات من جنة الغفران... وفيها التقت بحيَّة كانت قد سكنت في الحياة الدنيا بدار الحسن البصري فسألتها: "فكيف سمعْتِه يقرأ؟!: {فالقُ الإصباح} (الأنعام 6/96) فإنه يروى عنه بفتح الهمزة؛ كأنه جمع صُبْح... فتقول: لقد سمعته يقرأ هذه القراءة، وكنت عليها برهة من الدهر؛ فلما توفي-رحمه الله-انتقلت إلى جدار في دار أبي عمرو بن العلاء؛ فسمعتُه يقرأ؛ فرغبتُ عن حروف من قراءة الحسن"(10).
ويتابع محاورته بينهما في إطار من التخييل المسرحي، والقصصي المدهش بعبارة دقيقة الاختزال لمعارف شتى، ومعانٍ عديدة... ويستنكر قراءات لحمزة بن حبيب سمعتها منه تلك الأَفعى بعد وفاة أبي عمرو، وانتقالها إلى جواره.(11)
فهذه واحدة من قصصه المشهدية المتخيلة المفترضة والمستندة إلى مفهوم التأليف السردي المبتكر في عالم أدب الخيال... وهو مما يعرف في عالم اليوم وسبق إليه المعري... فقد قام سرده للأحداث المتخيلة على لسان الشخصية المفتاح؛ التي نَمت على نحو واضح ذاتياً ومعرفياً، كأحدث ما تكون عليه الشخصية القصصية المركبة والمعقدة في قصص القرن العشرين... وكذلك كان سرده على لسان الشخصيات الثانوية-البسيطة؛ ولكنها شخصيات غير ضعيفة؛ وليست محايدة في الوقت نفسه... فهي إن لم تكن نامية إنما كانت تنقل الأحداث بقوة؛ فتتعاون فيما بينها، ومن ثم فيما بينها وبين الشخصية الرئيسية، مما جعلها ذات ملامح خاصة بها في التعبير عن أي شأن فني أو فكري... وهذا ما يعرف في عصرنا بالرواية المتعددة الأصوات، التي يرى المحدثون أن (وليم فولكنر) رائدها، ومن أفضل من كتب فيها.(12) وهذا ما ظنوه في أعمال (جي. دي. موبسان) و(دوستوفسكي) من جهة بناء القصة على أساس التحليل النفسي للشخصية، أو تلك التي اتجهت إلى الحوار الداخلي؛ كما هي عليه أعمال (جيمس جويس) ثم (صموئيل بيكيت) في المسرح الحديث. فقد تخلَّى (بيكيت) في بعض مسرحياته عن الصراعات النفسية في أزمنة تدوم حتى النهاية وتبنّى الحوار الداخلي بين الشخصيات وفق مفهوم تعدد الأصوات كمسرحيته (نهاية اللعبة) و(كوميديا) التي صدرت سنة (1963م).(13)
ونرى-أيضاً-أن السرد في قصة الغفران ومشاهدها قد اعتمد على آليات فنية متعددة، وطرائق سردية متنوعة دون أن تخرج من إطار مفهوم الخيال الأدبي. فمن يتأمل هذه الطرائق فإنه يلحظ طريقة السرد الذاتي لكاتب الغفران؛ وهذا ما رأيناه في بدايتها؛ ومن ثم أناب ابن القارح عنه برواية الأحداث والأخبار والأشعار، وغيرها. فابن القارح حلَّ محل المعري وصار سارداً (راوياً) عنه يعبر عن رؤيته الخاصة به...
ومن هنا وجدنا هذه الطريقة تتعانق مع قانون الإخبار الذي أشرنا إليه من قبل، بينما وجدنا طريقة السرد الموضوعي-أو ما يعرف بالسرد الخارجي-تتضافر مع قانون التصوير الموحي. فالسارد يتنحّى جانباً، ويقود الشخصيات إلى الحديث عما يريده، وفق مفهوم الرواية المتعددة الأصوات؛ مما يتيح له المجال إلى الوصف المطول (السرد التصويري) ليقول ما يشاء على لسان أي شخصية، أو في إطار الوصف-الحوار.
وبهذا كله حقق المعري لقصة الغفران صفة المرونة في البناء الفني التخييلي العجائبي؛ على صعيد العناصر القصصية كلها. فالأحداث والشخصيات متخيلة، وكذلك الزمان والمكان متخيلان... في الوقت الذي حقق لنفسه الحرية والقدرة على الانتقال من زمن إلى آخر... فالمعري عرف الزمن التعاقبي التتابعي والخطي الذي عرفته الأديان السماوية، ومزج بينه وبين الزمن النفسي، ثم حطمه بالزمن الدائري في بعض الحكايات المتخيلة... وتجسد ذلك حين انتقل بابن القارح من الأزل إلى الأبد؛ ومن ثم عرض للأحداث التي نسجها على لسانه عرضاً منطقياً تبعاً لما عرف من مفهوم الزمن التعاقبي عند أرسطو أيضاً. وهذا ما نجده-مثلاً-في حكايته المتخيلة مع زهير بن أبي سلمى وعبيد بن الأبرص وعدي بن زيد؛ ومنها قوله: "وينظر الشيخ في رياض الجنة فيرى قصرين منيفين؛ فيقول في نفسه: لأبلغن هذين القصرين فأسأل لمن هما؟ فإذا قرب إليهما رأى على أحدهما مكتوباً: هذا القصر لزهير بن أبي سلمى المُزَني، وعلى الآخر: هذا القصر لعبيد بن الأبرص؛ فيعجب من ذلك، ويقول: هذان ماتا في الجاهلية؛ ولكن رحمة ربنا وسعت كل شيء؛ وسوف ألتمس لقاء هذين الرجلين فأسألهما بمَ غُفر لهما؟! فيبتدئ بزهير؛ فيجده شاباً كالزهرة الجَنِيَّة، قد وُهب له قَصْر من وَنِيَّة؛ كأنه ما لبس جلباب هَرِم، ولا تأفف من البَرم... فيقول: أأنت أبو كعب وبُجَيْر؟ فيقول: نعم. فيقول-أدام الله عِزَّه: بم غُفر لك؛ وقد كنت في زمان الفترة؛ والناس هَمَلٌ، ولا يحسن منهم العمل؟! فيقول: كانت نفسي من الباطل نفوراً، فَصادفت ملكاً غفوراً، وكنت مؤمناً بالله العظيم"(14).
هذه حكاية ابن القارح مع زهير في اعتمادها على قانون الإخبار وقانون التصوير التخييلي والتخيلي... فلو قلت: إنها أقصوصة فهي أعظم بكثير من أقاصيص هذه الأيام، بكل ما تقوم عليه من عناصر فنية.. فإذا تغافلنا عن الحوار الداخلي-أو ما يعرف بالمنولوج-وهو يقدم بوساطته صورة نفسية عظيمة... وإذا تغافلنا عن الحوار الخارجي الشائق بين الشخصية الرئيسية (ابن القارح) وبين الشخصيات الثانوية (زهير)... وإذا تغافلنا عن المكان المتخيل لذلك القصر المنيف في الجنة... وإذا أهملنا بنية الحدث (الفكرة) التي نشأت في ذهن ابن القارح؛ وهو يطوف في رياض الجنة، ومن ثم رأى القصرين؛ ثم دفعه الفضول الذاتي إلى معرفة صاحبيهما... وإذا نسينا تعدد الأصوات المعبرة عن الحدث بلسان كل شخصية؛... نقول: إذا كان كذلك فلا يمكننا أن ننسى هذا التدرج البنائي في الأحداث الزمانية المستندة إلى الزمن التعاقبي المستقيم؛... ومن ثم القفز عليه وفق مبدأ التداعي مرة، والزمن الدائري مرة أخرى ليرتد إلى الماضي (أهل الفترة-أهل الجاهلية) ثم ينتقل بمنظور خطي إلى مفهوم الجزاء وفق المنظور الإسلامي...
ولا يسعنا-هنا-إلا أن نقول: إن المحدثين يرون أن مبدأ التداعي الفني-وهو الاسترجاع إلى الوراء من نهاية القصة، أو وسطها... أو أي جزء آخر فيها-إنما هو مبدأ فني روائي حديث يسترجع فيه القاص أحداث ماضي الشخصيات أو الأحداث... ولكن رأيهم غير دقيق؛ فقد أظهر المعري بكل جلاء ووضوح في الحكاية السابقة وفي أمثالها من قصص الغفران عناية فائقة بهذا المبدأ... وإن لم يسمّه أبو العلاء باسم (التداعي) أو (الاسترجاع) ومثله يقال في مصطلحات الزمن (التعاقبي) و(الخطي) و(الدائري) و(النفسي)... فأي باحث حصيف يتأمل قصة الغفران يقع على تقنيات ذلك كله؛ تطبيقاً لا تنظيراً؛ في صميم قانون الإخبار أو قانون التصوير الموحي، وفي إطار الزمان الذهني المتخيل الذي حقق له حرية كاملة في استخدام آليات الفن القصصي الحديث. فالزمن الذهني المفترض والمتخيل أتاح للمعري أن يقفز فوق الحقب الزمانية، والبيئات المكانية؛ ويحشد في صميمه عدداً غير قليل من الشخصيات التي تتحاور فيما بينها، وتصف كل ما يرغب فيه المعري... لهذا بث على لسانها كمّاً هائلاً من الرغبات والمشاعر والمعارف،(15) ورسم لوحات خيالية مثيرة لأهل الجنة والنار من الناس والجن والشياطين، وألقى على لسانهم الأشعار التي ألهموها الشعراء(16)؛ وكشف ملامح عدد من المذاهب الفكرية والدينية-كما ذكرنا من قبل-وكما نجده في وصفه لذلك الحيوان المفترس الذي لقيه في (الأعراف) فوشى وصفه له وحديثه معه بمسألة الجَبْر والقَدَر.(17)
ومن استجلى كل ما مضى رأى أن قانون الإخبار تحكم بأبي العلاء مثل قانون التصوير؛ وهو يبني رسالته بناء فنياً محكماً وفق تصور ذهني تخيلي مسبق ودقيق ومدرك لعناصر القص المعروفة اليوم... فهذا البناء الفني التخيلي أو التخييلي جاء ملبياً لأغراض المعري وأفكاره ومشاعره وثقافته؛ ولا سيما أنه حاول إبراز قدرته؛ فزج الكثير من الأخبار وغريب اللغة في رسالته حتى اتهم بالتعقيد.(18) وكذلك جاء ملبياً ومنسجماً مع طرائق السرد التي أشرنا إليها من قبل سواء كان السرد خارجياً أم داخلياً. ومن ينظر إليها بموضوعية يجد أن أبا العلاء لم يُنَظّر للبحث السردي ولكنه استنّه عملياً في صميم قانون الإخبار القائم على التصور الذهني التخيلي الافتراضي. فالسارد الداخلي ظهر بلا شك في شخصية ابن القارح مما جعل ضمير المتكلم أو الغائب يظهر بكثرة على لسانه؛ أما السارد الخارجي الذي يمثل أبا العلاء فقد ظهر في قانون التصوير-غالباً-لأنه يتولى عملية الشرح والوصف... بينما لم يظهر بصفته سارداً داخلياً إلا في مطلع أقسام رسالة الغفران. ولهذا مزج بين شخصية السارد المتخيل-الخارجي في قصص الغفران وبين شخصية المرسل على الحقيقة؛ وظهرتا بعد ضَمير المتكلم(19). ولا شيء أدل على ذلك مما جاء في أول الرسالة الجوابية، إذ بدأ بضمير المتكلم فقال: "فهمتُ قوله-جعلني الله فداءه". ثم أضاف إليه ضمير الغائب فقال: "وهذه غريزة خُصَّ بها الشيخ دون غيره.. لو قالت شيرين: جعلني الله فداءك... لخالَبْته في ذلك ونافقته..."(20).
وكذلك يمكن أن نمثل للحوار الداخلي والخارجي المتخيل بمثال واحد لكل من الشخصيات العجائبية؛ والإنسانية... ولعل من أبرز أنماط الحوار الإنساني المتخيل ما ورد في قصة توسل ابن القارح بالعِتْرة المطهرة حيث يقول: "فطفت في العِتْرة المُنْتَجبين؛ فقلت: إني كنت في الدار الذاهبة؛ إذا كتبت كتاباً وفرغت منه قلْتُ في آخره: وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين؛ وعلى عِتْرته الأخيار الطيبين. وهذه حُرْمة لي ووسيلة. فقالوا: ما نصنع بك؟! فقلت: إن مولاتنا (فاطمة)-عليها السلام-قد دخلت الجنة مذ دَهْرٍ، وإنها تخرج في كل حين مقدارُه أربع وعشرون ساعة من الدنيا الفانية، فتسلم على أبيها، وهو قائم لشهادة القضاء، ثم تعود إلى مستقرها من الجنان..."(21)
فإذا ترك المرء دلالة التوسل بالعِتْرة النبوية؛ وإيحاءاتها البعيدة فإنه لا يستطيع إهمال الإشارات الدقيقة المعبرة عن البناء الخيالي الأدبي المفترض في الذهن للفكرة والشخصيات والزمن، والحوار... والمكان... وهذا عينه ما يتمثل لنا في الحوار العجائبي المتخيل بين ابن القارح وإحدى الأفاعي في رياض الحيَّات، فضلاً عن مفهوم السرد الداخلي الذاتي أو ما يعرف بالمنولوج، ومنه: "وَيَهْكُر-أَزلفه الله مع الأبرار المتقين-لما سمع من تلك الحية، فتقول هي: ألا تقيم عندنا بُرْهة من الدهر؟ فإني إذا شئتُ انتفضتُ من إهابي فصِرت مثل أحسن غواني الجنة، لو ترشفتَ رضابي لعلمت أنه أفضل من الدِّرْياقة... فيُذْعر منها-جعل الله أمنه متصلاً... ويذهب مهرولاً في الجنة؛ ويقول في نفسه: كيف يُرْكن إلى حيَّة شرفها السُّمُّ، ولها بالفتكة هَمٌّ؟ فتناديه: هلمَّ، إن شئت اللذة."(22)
ويطالعنا مثل هذا الحوار المتخيل وفق مبدأ التداعي أو الاسترجاع الممزوج بفن الاستطراد لينقل لنا الثقافة العظيمة التي يتصف بها المعري كما نجده في جنة الأعراف التي دخلها الحطيئة بأبيات الهجاء التي هجا بها نفسه، لأنه كان صادقاً فيها، كما دخلتها الخنساء على أخيها صَخْر، وقد أُضْرمت النار في رأسه؛ وهو يقول لها: "لقد صحَّ مزعمك فيَّ" أي قولها:(23)
وإنَّ صَخْراً لتأتمُّ الهداة
لمّا جعل أبو نصر الفارابي (873-950م) التخييل غاية المحاكاة لخَلْق حالة من التأثير في نفس المتلقي؛ سواء أكان التخييل في الشيء نفسه أم في شيء آخر يضاهيه(27) كان المعري أكثر قدرة على ذلك حين جمع بين التخيل والتخييل؛ وزاد عليه في الإيحاء التصويري أنه ساق أفكاره في إطار من المناظرة والمقايسة حين ردَّ على أعدائه وخصومه؛ وأيَّد ما قاله بالبراهين والتجارب... فرسالة الغفران-في الأصل-ردٌّ على رسالة سابقة وردت إليه من ابن القارح (أبو الحسن علي بن منصور الحلبي...) وقد أملى المعري رسالته على كاتبه بمعرة النعمان سنة (424ه/1033م). وهي تعدّ-بحق-أعظم أثرٍ لغوي نقدي أدبي فني مؤلف في عقد واحد؛ نظمته مخيلة مبدعة لإنسان ما حتى يومنا... ويستند إلى ما يسمَّى اليوم بمفهوم (تراسل الفنون الأدبية: الرسالة-القصة-المشهد المسرحي)... وإن طغى عليه شكل الحكايات الصغيرة التي غدا فيها ابن القارح سارداً داخلياً-على الأغلب.
ومن ثم فرسالة الغفران نمط تأليفي بديع من نوع خاص ينتمي إلى الخيال الأدبي؛ فهي رحلة ذهنية خالصة تخيلها عقل المعري الفذ الذي انتقل فيها على جسر الثقافة الموسوعية من عالم الدنيا (الأزل) بكل حقبه الزمانية وكثير من البيئات المكانية إلى عالم الآخرة (الأبد) على تعدد أسمائه مثل (المحشر والصراط، والأعراف ثم الجنة والنار)؛ رحلة تتحرك فيها شخصيات الغفران بكل دقة وعناية، فتتجدد وعياً وفَهْماً وإلهاماً مع كل جيل من الأجيال حين تسوق الأشكال إلى أشكالها؛ وتثير في النفوس أفكاراً لا ينضب معينها، وعاطفة لا يخبو أوارها... إنها فن خلاّق ومثير في الخيال الأدبي لا تبلى جدته على مَرّ الدهر.
وقبل أن نتلمس ذلك كله نذكِّر بأن اسم (الغفران) أُخذ من إجابة كل شخص أدخله أبو العلاء الجنة؛ إذ كان يسأله: بِمَ غُفر له حتى كان من أهلها؟ ثم يعقد له ذلك بمشيئة الله(28). أما اسم (الرسالة) فقد جاء من كونها رسالة جوابية على رسالة لابن القارح أرسلها إليه. وهو يطلق عليها هذا الاسم في مواضع عدة؛ كما في قوله: "وقد وصلت الرسالة التي بَحْرها مَسْجُور، ومَنْ قرأها مأجور، إذ كانت تأمر بتقبُّل الشرع؛ وتعيب من ترك أصلاً إلى فرع... فقد غُرس لمولاي الشيخ... شجر في الجنة لذيذ اجتناء"(29).
وكذلك هو من أطلق عليها اسم (القصة) على لسان شخصيته الرئيسية (ابن القارح) حيث يقول: "أنا أقص عليك قصتي"(30)؛ أي حكايتي، وروايتي وخبري. ومن ثم نجد في ثنايا أي قصة يسردها في (الغفران) جملة من مشاهد تخيلية أو تخييلية طريفة ومدهشة تجنح جنوحاً مسرحياً حياً، كما نعرفه اليوم في الفن المسرحي.
وبناء على ذلك فلسنا نشك في أن رسالة الغفران تقع في قسمين: الأول؛ أتى-في طبعة د. بنت الشاطئ-بعد رسالة ابن القارح (129-379) وفيه تحركت شخصية ابن القارح من الأزل إلى الأبد في عالم عجائبي تخييلي أكثر مما هو تخيلي واقعي، والثاني جاء من (381) إلى (584)؛ وظهرت فيه ثقافة المعري العظيمة وقدرته على المعارضة والتحليل والسخرية من ابن القارح... على حين أن المتعارف عليه في المراسلة إظهار المجاملة والتلطف؛ لا الثورة العنيفة المبطنة على صاحب الرسالة الأولى...
ومن هنا نقول: إن الناظر المتعجل لبنية (الغفران) وما عرفه الناس من نظام الرسائل الإخوانية-بما فيها الجوابية-يدرك أن بنية الرسالة اتجهت اتجاهاً جديداً في الحجم أو الطول... فقد جرت مجرى الكتب... ولم يغفل صاحبها عن طولها بعد أن لمس هذا في نهاية القسم الأول فقال: "وقد أطلت هذا الفصل، ونعود الآن إلى الإجابة عن الرسالة".(31)
فالقسم الأول لم يخلص لفن الرسالة-وكذا الثاني-بأي شكل من الأشكال؛ وإنما مثّل الفن القصصي بكل تجلياته المعروفة اليوم من دون أن ينفصم عن طبيعة أبي العلاء وثقافته، وطبيعة عصره وبيئته... مما يعني أنه لم يتحرر من نظام الرسائل وقواعده المعروفة في زمانه تحرراً كلياً وكاملاً. فقد فرض المضمون المعالج مادته وشكله على المعري؛ مما جعله يجمع بين عدة فنون أدبية تتراسل فيما بينها لتلبية الغرض المقصود. وكان عقل المعري الصَّنَاع القادر على التخييل والجمع والتوفيق وراء ذلك، إذ استجاب للإبداع حين اعتمد على قانونين اثنين:
1- قانون الإخبار المستند إلى مبدأ التداعي الفني الأخاذ الذي أجاد بوساطته عملية الاسترجاع (الارتداد إلى الماضي) وعملية تحطيم الزمن المستقيم (الأزل-الأبد)؛ بوساطة الزمن الدائري، فتحول بآلياته الفنية تحولات زمانية وموضوعية عديدة ليقدم لنا مادة ثقافية عربية موسوعية؛ فضلاً عن التقنيات القصصية. فلما أدخل ابن القارح المحشر وسار به بزمن مستقيم إلى الجنة، ومن ثم تنقل في أنحائها؛ وانتهى إلى النار عاد وفق آليات الزمن الدائري إلى الأعراف... وعرض فيها جملة من المشاهد الحية المشبعة بالآراء والأخبار واللغة والنقد...
2- قانون التصوير الوصفي، وهو يقترب مما يعرف اليوم بالسرد الموضوعي، إن لم يكن نظيراً له... فمفهوم التصوير عند المعري أداته الأساسية لإبراز قدرته على النسيج التأليفي من جهة؛ وإظهار فكرة التحدي إلى أشرنا إليها سابقاً؛ باعتبار القوى الدفينة في نفسه وفكره من جهة أخرى.
ومن هنا تحدونا الرغبة إلى البرهنة على ذلك؛ مما يُلزمنا بالعودة إلى بداية الرسالة، ومن ثم نتعقب ما يؤيدنا فيما نذهب إليه.
قلنا: إن رسالة الغفران ردٌّ جوابي على رسالة ابن القارح التي بعث بها إلى المعري يعتذر فيها عن ضياع رسالة الأديب أبي الفرج الزَّهْرجيّ؛ التي سرقت منه في الطريق وكانت موجهة إلى المعري.(32) ثم أخذ ابن القارح يزكي نفسه عند المعري، ويعرّفه بمدى علمه، ويبين مقدار حفظه للأخبار والأشعار واللغة والفقه والحديث والقرآن الكريم... وقد جاء الردُّ في القسم الثاني خاصة، وفيه حمل على ابن القارح وتهكم منه تهكماً شديداً ومبطَّناً؛ دلَّ على مدى حنقه عليه وثورته اللاذعة منه؛ ولا سيما أن أبا العلاء استشعر عنده الشكوى والنقد للأدباء والعلماء الموثوق بهم؛ كقوله: "وأما الذين ذكرهم من المُصَحِّفين فغير البَررة ولا المنصفين. وما زال التَّتْفُل يعرض لأذاة الأسد؛ وما أحسبه يشعر بمكان الحسد"(33).
فليس هناك من ريب في مدى ما تحمله عبارة المعري من تهكم ساخر بابن القارح حين نعته بالأسد الذي يتعرض له الثعلب بالأذى... فالمعري رأى منه نوعاً من التفاخر والخيلاء؛ فلجأ إلى هذا الأسلوب الفني الملغز والبديع. وأيقن بذلك حين نظر في قوله: "كنت أدرس على أبي عبد الله بن خالويه... وأختلف إلى أبي الحسن المغربي؛ ولما مات ابن خالويه سافرت إلى بغداد؛ ونزلت على أبي علي الفارسي؛ وكنت أختلف إلى علماء بغداد: إلى أبي سعيد السِّيْرافي؛ وعلي بن عيسى الرُّمَّاني؛ وأبي عبد الله المَرْزُباني، وأبي حَفْص الكَتَّاني صاحب أبي بكر بن مجاهد. وكتبت حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وبلَّغْتُ نفسي أغراضها... ثم سافرت إلى مصر"(34). وعدَّد من لقيهم فيها وأخذ عنهم... ثم عرض لمحاورة له مع أبي القاسم بن أبي الحسن المغربي علي بن الحسين استطال فيها بذكائه وشعره: (قال أيْ أبو القاسم: لي ليلة: أريد أن أجمع فيها أوصاف الشمعة السبعة في بيت واحد؛ وليس يسنح لي ما أرضاه. فقلت: أنا أفعل هذه الساعة. قال: أنت جُذيلُها المحكَّك؛ وعُذَيقُها المُرَجَّب. فأخذت القلم من دواته وكتبت بحضرته:
لقد أَشبهَتْني شمعةٌ في صبابتي *** وفي هول ما ألقى وما أَتوقَّعُ
نحولٌ، وحَرْق؛ في فناءٍ، ووحدةٍ *** وتسهيدُ عَيْنٍ، واصفرار، وأَدمُعُ
فقال: كنتَ عملتَ هذا قبل هذا الوقت!! فقلتُ: تمنعني سرعة الخاطر وتعطيني علم الغيب؟!!).(35)
ولذلك طفق المعري يسخر من ابن القارح، ويتهكم منه بأساليب حكائية عديدة تمد بينها وبين الخيال العجائبي، والخيال التصويري الموحي حبالاً متينة... وعمد إلى هذا منذ افتتاح الرسالة؛ ولا سيما أنه مزج ذلك بالأدعية الكثيرة التي تشي بالسخرية اللاذعة منه؛ كقوله: "قد علم الجَبْر الذي نُسب إليه جَبْرئيل... أن في مسكني حَماطةً؛ ما كانت قط أَفانيةً... تثمر من مودة مولاي الشيخ الجليل-كبَت الله عدوَّه، وأدام رواحه إلى الفضل وغُدُوَّه-ما لو حملَتْه العالية من الشجر لدنت إلى الأرض غصونها"(36).
فهذه المقدمة قد تخدع بصيغها التعبيريةِ المباشرةِ القارئَ المتعجل؛ وقد يوقن بأنها رسالة جوابية إخوانية تحمل من الثناء على ابن القارح ما تحمله من الإجلال... فمنهجها منهج ترسلي عربي خالص قائم على مبدأ (الاستطراد) الذي ساعده على مزجه بفنون أخرى في عقده لرحلة ابن القارح من الأزل إلى الأبد (الحشر فالصراط... ثم الجنة)... وقد يقول قائل-أيضاً: إن التكنية عن حَبَّة القلب بنوع من الشجر يسمى (الحماطة)؛ أو بألفاظ (الحَِضْب) و(الأسود) ينتمي إلى ما يعرف عند العرب بالإلغاز البديعي ليس غير... مما يجعلها لا تخرج عن مفهوم الترسل، ومن ثم ليست بعيدة الإيحاء التصويري.
وهذا يدعونا إلى التأمّل الواعي في تلك المقدمة، فالحماطة ليست كناية عن حبة القلب؛ وإنما هي "ضَرْب من الشجر؛ يقال لها إذا كانت رَطْبة: أَفانيةٌ، فإذا يبست فهي حماطة... وتوصف بإِلْف الحيَّات لها".(37) وكذا يكون معنى (الحَِضْب) الضخم من ذكور الأفاعي في قوله: "وإنَّ في طِمْريَّ لحَِضْباً وُكِّل بأَذاتي... يضمر من محبة مولاي الشيخ الجليل-ثبَّت الله أركان العلم بحياته-ما لا تضمره للولد أُمٌّ، أكان سُمُّها يُدَّكر أم فُقد عندها السُّم... وقد علم-أدام الله جمال البراعة بسلامته-أن الحضب ضرب من الحيَّات، وأنه يقال لحَبَّة القلب حضب، وإن في منزلي لأَسْودَ هو أَعزُّ عليَّ من (عنترة) على (زبيبة)..."(38).
فإذا تذكرنا أن من معاني (الأَسْود) معنى الحيَّة العظيمة الخبيثة النكراء، ومن ثم أعدنا النظر في اشتمال المقدمة السابقة على (الحماطة) الملتفة الأغصان اليابسة الأعواد التي تألفها الحيات، وعلى (الحضب) باعتباره صورة للأفاعي الضخام التي تألف هذا النوع من الشجر-ولا سيما أنه وكِّل بأذاته، إذ شاكل بين سمها ولبن الأم، وعلى (الأَسْود) وهو نوع منكر خبيث من الحيَّات التي تألف المنازل... نقول: إذا أعدنا النظر فيها أدركنا؛ بما لا يقبل الشك؛ أنه ما أراد بذلك كله الإِلغازَ البديعي على الحقيقة؛ أي لم يكنِّ بها عن حبة القلب التي تعني المودة والمحبة... وإنما كانت صورة فكرية ونفسية متخيلة توحي بأنها تحيَّة مُتّشحة بالسواد؛ ومشحونة بأنفاس الحيّات الخبيثة المؤذية...
وإذا كنا-جميعاً-لم نعهد مثل هذه المشاكلة المعنوية مع حبَّة القلب-من قبل عند غير أبي العلاء-أيقنا بأنها تحيَّة رمزية خيالية تشي بأبعاد كثيرة... فهذا الاستهلال الخيالي التصويري إنما يشاكل ما انطوت عليه رسالة ابن القارح من خُبْث ونفاق؛ وتلون ورياء، وتبجّح وادعاء، وما ترسيه من زهو وتعالٍ... فشأن ابن القارح لا يخفى على المعري؛ فليس هو بالخِبّ الذي يُخْدَع بظاهر الكلام؛ فكيف به وقد هجا ابن القارح الشيخ المبجل أبا القاسم، حيث خاطب فيها المعري بقوله: "بلغني عن مولاي الشيخ-أدام الله تأييده-أنه قال-وقد ذُكرت له: أعرفه خَبَراً، هو الذي هجا أبا القاسم بن علي بن الحسين المغربي. فذلك منه-أدام الله عِزَّه-رائع لي؛ خوفاً أن يستَشِرَّ طبعي، ويتصورني بصورة من يضع الكفر موضع الشكر... وأنا أُطلعه طِلْعَه ليعرف خَفْضه ورفعه، وفَراده وجمعه".(39) ثم ذكر الخبر الأسبق المثبت من قبل في الحاشية الخامسة والثلاثين.
فلم يعد هناك ما يثير الجدل في أن المعري إنما وضع هذه المقدمة الخيالية المثيرة شكلاً ومضموناً ليسخر من ابن القارح بأسلوب ملغز لم يعهده الناس؛ فضلاً عما توحي به الأدعية التبجيلية الكثيرة بقرينة الضدية-علماً أن كل شيء زاد على حده انقلب إلى ضده (40)... وكذلك حين استخدم كثيراً من الآيات القرآنية التي يدل بسياقها على معنى التهكم الشديد منه. ويطالعنا هذا كله منذ بداية الرسالة، إذ وصف رسالة ابن القارح بأن الله-سبحانه-"قد نصب لسطورها المُنْجية من اللهب معاريجَ من الفضة أو الذهب؛ بدليل الآية: {إليه يصعد الكَلِمُ الطيب والعمل الصالح يرفعه} (فاطر 40/10)"، ثم ربط هذا بشجرة (ذات أَنْواط) التي كان يعظمها الجاهليون...
فإذا أغفلنا-الآن-هذا التصوير الخيالي (التخيلي والتخييلي) الطريف الممتع لوصف رسالة ابن القارح فإننا لا نغفل ما يدل عليه من ازدراء تهكمي له؛ علماً أن التهكم والسخرية ينتجان عن "حالة نفسية هادئة أميل إلى الطبع الفلسفي"(41)؛ وهو ما ينطبق عليه طبع أبي العلاء المعري.
________________________________________
(1) انظر مثلاً: معجم الأدباء 3/107-217 ووفيات الأعيان 1/113 واللزوميات (لزوم ما لا يلزم) 1/5 وما بعدها؛ والأعلام 1/115 و157 و8/121، والفن ومذاهبه في النثر العربي 265-274 وجديد في رسالة الغفران 20-22 و30-39 و43-44 و47-50، وفي الميزان الجديد 144-149 وتاريخ النقد الأدبي 387- 392 والسخرية في الأدب العربي 242-257 ونقد الشعر في آثار أبي العلاء 3-12.
(2)انظر مثلاً: معجم الأدباء 3/107-217 ووفيات الأعيان 1/113 واللزوميات (لزوم ما لا يلزم) 1/5 وما بعدها؛ والأعلام 1/115 و157 و8/121، والفن ومذاهبه في النثر العربي 265-274 وجديد في رسالة الغفران 20-22 و30-39 و43-44 و47-50، وفي الميزان الجديد 144-149 وتاريخ النقد الأدبي 387- 392 والسخرية في الأدب العربي 242-257 ونقد الشعر في آثار أبي العلاء 3-12.
(3) اللزوميات 1/42. الباء: الزواج أو النكاح.
(4) انظر مثلاً: معجم الأدباء 3/107-217 ووفيات الأعيان 1/113 واللزوميات (لزوم ما لا يلزم) 1/5 وما بعدها؛ والأعلام 1/115 و157 و8/121، والفن ومذاهبه في النثر العربي 265-274 وجديد في رسالة الغفران 20-22 و30-39 و43-44 و47-50، وفي الميزان الجديد 144-149 وتاريخ النقد الأدبي 387- 392 والسخرية في الأدب العربي 242-257 ونقد الشعر في آثار أبي العلاء 3-12.
(5) راجع مصادر حاشية(1).
(6) انظر مثلاً: في الميزان الجديد 129 وما بعدها و138 وما بعدها، ونقد الشعر في آثار أبي العلاء 24-50.
(7) هناك عدد من الأبحاث التي عالجت آثار أبي العلاء وحياته، منها:
1- مع أبي العلاء في سجنه-د. طه حسين-القاهرة-1939م.
2- تجديد ذكرى أبي العلاء-د. طه حسين-دار الكتب المصرية-القاهرة-1944م.
3- أبو العلاء ناقد المجتمع-زكي المحاسني-دار المعارف-بيروت-1947م.
4- فلسفة أبي العلاء-حامد عبد القادر-القاهرة-1950م.
5- أبو العلاء زوبعة الدهور-دار مارون عبود-بيروت-ط1/1962م/ وط3 1970م.
( هناك حركة نقدية وتأليفية صدرت في كتب أو في دوريات ناقشت قضايا كثيرة من آثار أبي العلاء وحياته، منها:
1- رجعة أبي العلاء-عباس محمود العقاد-دار الهلال-مصر.
2- رسالة الغفران-أحمد راتب النفاخ (نقد لما في طبعة رسالة الغفران لبنت الشاطئ) مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق (- مج 32-ج4-ص685-عام 1957م) و(مج 33-ج1-ص146-عام 1958م).
3- في الميزان الجديد-د. محمد مندور-دار نهضة مصر-القاهرة-1973م.
4- محاورات طه حسين-د. توفيق أبو الرب-وزارة الثقافة-عمّان-1994م.
(9) انظر تفصيل ذلك كله في (معجم الأدباء 3/123- 124 و143-145 والأعلام 4/278 وجديد في رسالة الغفران 25-29 و40-43).
(10) سقط الزند 39. الصماء: الداهية الشديدة. وصمَام: من أسماء الداهية؛ (اسم مبني على الكسر). هَمَام: أي مهموم، (اسم مبني على الكسر).
(11) سقط الزند 46.
(12) انظر الرثاء في الجاهلية والإسلام 68 وما بعدها.
(13) انظر قصيدته في رثاء أبيه التي جاءت على روي (النون) في سقط الزند 13.
(14) اللزوميات 1/249. النبيث: الشرير، وهو من (نَبَث) أي أخرج.
(15) راجع مصادر الحاشية (1) مما تقدم.
(16) راجع مصادر الحاشية (1) مما تقدم.
(17) اللزوميات 1/43. الطبس: كورة، أو منطقة بخراسان، وهي في أرض جمهورية (إيران) اليوم.
(18) نقد الشعر في آثار أبي العلاء 18 وانظر الفن ومذاهبه في النثر العربي 305.
(19) انظر مصطلحات نقدية من التراث الأدبي العربي 233-239.
(20) لسان العرب-(صور).
(21) انظر لسان العرب-(خيل).
(22) أسرار البلاغة 231.
(23) أسرار البلاغة 239.
(24) منهاج البلغاء وسراج الأدباء 90.
(25) المرجع السابق 89 وانظر فيه 87-92.
(26) انظر مقدمة للشعر العربي 132 وقد فرَّق بين التخيُّل والتخييل، والتخييل-عنده-أعمق وأشمل من الخيال.
(27) انظر مصطلحات نقدية 234 –235.
(28) انظر جديد في رسالة الغفران 77، ورسالة الغفران: أحمد راتب النفاخ-1/152 وراجع مضمون الحواشي الآتية (46و47و55و71و75و76).
(29) رسالة الغفران 139 –140.
(30) رسالة الغفران 248.
(31) رسالة الغفران 379.
(32) ورد اسم الزهرجي في رسالة ابن القارح: ص26، وفي ردّ المعري: ص404.
(33) تأمل رسالة المعري الجوابية، ولا سيما القسم الثاني: 381-584، وانظر السخرية في الأدب العربي 242-257.
(34) رسالة الغفران 56-57 وانظر ما قاله مندور: (في الميزان الجديد 142-145).
(35) رسالة الغفران 59-60.
(36) رسالة الغفران 129-130 وانظر تجديد ذكرى أبي العلاء 133.
(37) رسالة الغفران 130.
(38) رسالة الغفران 131-132 وانظر رسالة الغفران: أحمد راتب النفاخ 686/ مج32؛ إذ لا يجوز فتح همزة (إن) في ذلك لاقتران اللام باسمها؛ وانظر جديد في رسالة الغفران 62-65.
(39) رسالة الغفران 55-56 وانظر ترجمة ابن القارح في معجم الأدباء 15/83-88.
(40) تأمل-عزيزي القارئ-الأدعية التي وردت في أمثلتنا السابقة؛ وفي رسالة الغفران مثل (168و172و206و207و208...) وانظر القسم الخاص عن (سخرية أبي العلاء) في كتاب (السخرية في الأدب العربي) 242-257 وتأمل ما يأتي من البحث.
(41) انظر في الميزان الجديد 144 وراجع رسالة الغفران 141-142 وتأمل كيفية ذكره لذات أنواط.
إذن، نهض ما تقدم بإثبات أن الأدعية المُوجهة إلى ابن القارح ليست إعجاباً به كما ذهب إليه الدكتور شوقي ضيف(1)؛ وإنما هي إمعان في التخيّل الفني الساخر منه. ويؤيد هذا كثرة معارضات المعري الثقافية له بما تحمله من أخبار وأشعار وآراء لغوية... وما عرض له من الآيات والأحاديث... وقد يظهر ذلك الازدراء والاستهزاء بابن القارح بشكل واضح، كما نراه حين وصف لنا اعتذاره عن سرقة رسالة أبي الفرج الزَّهْرَجيّ؛ وكان ابن القارح قد قال: "فسرق عَديلي رَحْلاً لي؛ الرسالة فيه؛ فكتبت هذه الرسالة أشكو أموري؛ وأَبثّ شُقُوري، وأُطلعه طِلْع عُجَري وبُجَري"؛ فقال المعري: "وددت أن الرسالة وصلت إليّ، ولكن ما عدل ذلك العَديل؛ فبَعِد ما تغنَّى هَديل؛ هلاَّ اقتنع بنفقة أو ثوب، وترك الصحف عن نَوْب؟!! فأَرِب من يديه، ولا اهتدى في الليلة بفَرْقديه. لو أنه أحد لصوص العرب الذين رُويت لهم الأمثال السائرة، وتحدَّث بهم المُنْجِدة والغائرة لمَا اغتفرت ما صنع بما نظم؛ لأنه أَفْرط وأَعظم؛ أي أتى عظيمة، وبَتَك من القلائد نظيمة".(2)
فهذا المقطع جزء من مقدمة الرسالة الجوابية (القسم الثاني)، وفيه استعمل الدعاء على وجه أكثر وضوحاً من غيره... وهي مقدمة مغايرة لكل ما ألفناه من مقدمات الرسائل عند العرب؛ وكذلك لم تعرف الأمم الأخرى لها نظيراً... مقدمة بنيت على شخصية ابن القارح ورسالته؛ فهو يعرض لأماكن بعينها كان يقتنص ابن القارح فيها لذاته كما يبرر من عرضه لقصّة امرئ القيس... وكأنه يحدثنا عن حال صاحبه ابن القارح... مما يؤكد أن شخصية ابن القارح هي الشخصية المفتاح للأدب الخيالي الجمالي والعجائبي البديع، وهي الشخصية الرئيسية بما حملته من أحداث وحكايات ورؤى فكرية وفنية، ورموز مكثفة معبرة عن السر الأبدي للقلق الإنساني من المصير... إنها مشبعة برؤى المعري المشتملة على حكمة عالية لتبصير الإنسانية بالحياة والآخرة... فهي حاملة لأفكاره وثقافته ومشاعره، ومخاوفه وأحلامه؛ ما كان منها مكبوتاً في نفسه، أو ما يتقوّله الناس عليه... ولا سيما أنه يتهيأ لاستقبال عالم الآخرة البعيد كل البعد عن عالم الدنيا... ولا علم له به إلا ما ثقِفَه من معتقدات الدين الحنيف، وحازته ذاكرته من معارف وتجارب وهو يودّع عقده السادس من العمر، ويشرف على السابع... فمكابدته للحياة والمجتمع، والناس، وبخاصة بعض القرّاء والفقهاء والمتصوفة واللغويين... جعلته حزيناً منكفئاً على ذاته التي ارتهنها في بيته جسداً لا فكراً... هذا الانكفاء الذي حرَّض عقله في مثل هذه السن على تأمل المصير الإنساني هو الذي كوّن عالمه الخاص الذي ظهر بقوة في رسالته... لهذا جاء عالمه مشتتاً مليئاً بالتناقضات الفكرية والعاطفية، مما أدى بعالم الآخرة إلى الاتصاف بالتباعد والتنافر. ونضيف إلى ذلك أن شخصية ابن القارح تختلف عن الشخصية المفتاح (محمد بن أبي بكر) في (رسالة التوابع والزوابع) لابن شُهَيْد الأندلسي (أحمد بن عبد الملك بن أحمد بن شهيد من بني الوضّاح: 382-426ه/ 992-1035م) التي لم يعرف منها إلا اسمها في بدايتها؛ وكذا تختلف الشخصيات والأحداث والبناء. فالمعري تشدّد في السبب الذي يدخل أي شخصية الجنة أو النار؛ ويعلل ذلك بكثير من التحليل والوصف المشهدي الخيالي... فما نال الجنة من نال؛ ولا استحق النار من استحق إلا بعمله الصالح ونيته النقية الصافية، وقوله السديد المحكم العفيف، وتوبته النصوح... ومن ثم برحمة الله وسَعة عفوه، بقطع النظر عما اشتُهر به في حياته، وما فعله الناس بحقه؛ وإن رموه بالزندقة، أو اتهموه بالكفر والإلحاد.
وكذلك علَّل إدخاله لبعض الجاهليين-أهل الفَتْرة-جنة الغفران؛ وعدد من اللغويين-وإن كان على عداء شديد مع أكثرهم-ويؤكده قوله: "وكأني به-أدام الله الجمال ببقائه-إذا استحق تلك الرتبة بيقين التوبة؛ وقد اصطفى له ندامى من أدباء الفردوس كأخي ثُمَالة وأخي دَوْس، ويونس بن حبيب الضَّبّي وابن مَسْعدة المجاشعي. فهم كما جاء في الكتاب العزيز: {ونزعنا ما في صدورهم من غِلّ إخواناً على سُرُرٍ متقابلين...} (الحجر 15/47)؛ فصَدْرُ أحمد بن يحيى هنالك قد غُسل من الحقد على محمد بن يزيد فصارا يتصافيان ويتوافيان".(3)
وقبل أن نشير إلى ما يدل عليه هذا النص من فكرة الإرجاء؛ نؤكد مرة أخرى أن شخصية ابن القارح بما فيها من شهوات ونزوات وخبث ونفاق كانت مفتاح بناء الغفران فاختلفت-كما قلنا قبل قليل-عن الشخصية المفتاح في (رسالة التوابع والزوابع) تناولاً وطبيعة وبناء فنياً كاختلاف الشخصيّات الأخرى. وعلى الرغم من صفات تلك الشخصية، وبما فيها من عبث ولهو وتعهر فقد أدخلها المعري جنة الغفران بمشيئة الله ورحمته، وكذا فعل مع بعض متعهري الشعراء. وبها عقد لها الرحلة من الأزل إلى الأبد لقوله: "فقد غُرس لمولاي الشيخ الجليل-إن شاء الله-بذلك الثناء شجر في الجنة لذيذُ اجتناء..."(4).
فأبو العلاء اعتمد على فكرة الإرجاء في إدخال ابن القارح الجنة؛ وعقده برحمة الله ومشيئته؛ لا بعمل العبد؛ بينما أدخل الملحدين والزنادقة جميعاً في نار جهنّم؛ يصطلون فيها؛ فأذاقهم حَرَّ سعيرها، وسلط عليهم زبانيتها... ولما ناقض بهذا العمل فكرة الإرجاء فإنما عقده أيضاً بمشيئة الله، كما فعل مع بشار بن بُرْد، حين قال فيه: "والله العالم بحقيقة الأمر-ولا أحكم عليه-بأنه من أهل النار، وإنما ذكرت ما ذكرت؛ لأني عقدته بمشيئة الله"(5).
وبهذا فإن المعري قد تنازعته أفكار شتى في رسالته التي اشتملت على معتقدات دينية وفلسفات عديدة وثقافات متنوعة... وعرض لفكرة الجبر في مواضع شتى كما ذكرناه وكما نراه في قوله: "والتوفيق يجيء من الله سبحانه وتعالى بإجبار؛ وفيما خوطب به النبي (صلى الله عليه وسلم): {ووجدك ضالاً فَهدى} (الضّحى 93/7)" وكذلك شن حملة على مَنْ يدعي معرفة الغيب؛ كقوله: "وما آمَنُ أن تكون الآخرة بأرزاق.. على أن السر مُغَيَّب، وكلنا في الملتمس مُخَيَّب، والجاهل-وفوق الجاهل-من ادّعى بغِبّ المناهل، واللعنة على الكاذبين".(6)
ولعل موقف المعري من الملحدين والزنادقة يبرئه من تهمة الزندقة التي أُلصقت به؛ علماً أنه لم يدخل أحداً من أحبته في رحلة الغفران إلى الآخرة، مما يؤكد لنا موضوعيته. ولعله شغل عنهم بهمومه وهواجسه وأمانيه وآرائه المتعددة؛ وهي ؟؟؟ بالحدة والتطرف في بعض الأحكام والتصرفات... ولهذا سعى إلى كسر القيود التي شلت حركته نصف قرن من الزمان... ولا سيما حين جعل العميان مبصرين يرون كل شيء في عالم الآخرة كبشار والأَعْشين... وحين فك عزلته وطاف مع ابن القارح في الجنة والنار، وسافر معه في الأزمنة والأمكنة فعوض فيها عن كل ما فقده في حياته... ثم إنه لم يكتف بتحطيم المتعارف عليه من الثقافات والفلسفات والمذاهب في رسالته وإنما حطم كل نظام تأليفي عرفه العرب... ليلائم الضروب الفكرية؛ والنفسية والاجتماعية التي رغب فيها... فقد حطم فكرة القهر الاجتماعي، وفكرة الحبس الطوعي؛ وفكرة الرقيب الديني والخلقي والذاتي... وبنى أفكاراً جديدة تحقق له كل ما يصبو إليه بوساطة عالمه التأليفي الخيالي الحر... فجنة الغفران مملوءة بالحركة والصوت... والغناء والرقص... وفيها كل ألوان المتع والشهوات المادية التي حرم منها في الدنيا... وجعل سبيله إلى إشباع رغباته في جنيته شخصيةَ ابن القارح؛ هذه الشخصية التي اتصفت حياتها بالشهوانية المغرقة في صبواتها؛ وكذلك هي الجنة ترتشف الرضاب من الحوريات.(7)
إنه يرسم صورة الجنة-على ما فيها من الاقتداء بالتصور الإسلامي-كأنها صورة منتزعة من حياته وحياة ابن القارح؛ فيها الصدّ والإقبال، والصد والزيارة؛ والرضا والغضب، والعقوق والبر؛... هي عالم لا متناهٍ من الخيبة والرجاء، والهواجس والهموم... وفكره فيها مبتلىً بالنسيان والغفلة بعكس ما عرف عنه في دنياه... وخمرها لذيذة تريح شاربها من دون غَول كما يصفها بقوله: "تلك هي الراح الدائمة؛ لا الذميمة ولا الذائمة، بل هي كما قال علقمة:
تَشفي الصُّداع، ولا يُوْذيه صالبُها *** ولا يخالط منها الرأسَ تَدْويمُ
ويعمد إلهيا المغترف بكؤوس من العَسْجد، وأباريق خُلقت من الزَّبَرْجد، ينظر منها الناظر إلى بَدِيّ، ما حلم به أبو الهندي-رحمه الله-فلقد آثر شراب الفانية، ورغب في الدنيَّة الدانية".(
ويمكن للمتأمل في هذا النص أن يلمس مدى حسرة المعري على خيبته في تصيّد مُتَع الدنيا التي عرفها أبو الهندي، ولذلك آثر أن يدَّخر حقه فيها إلى الآخرة... وكذلك نستشعر هذا الحُلُم المثير في قوله: "ويعارض تلك المُدامة أنهار من عسل مُصَفّىً ما كسبته النحل الغادية إلى الأنوار، ولا هو في مُوْم مُتَوارٍ، ولكن قال له العزيز القادر: كُنْ فكان، وبكرمه أعطى الإمكان. واهاً لذلك عسلاً"؛ ثم يستشهد بآيات من القرآن الكريم في وصف نعيم الجنة.(9)
ولو توقف أحدنا متأملاً النص السابق ومستشعراً إيماءاته النفسية لقبض بيده على الحسرة الحارقة في كلمة (واهاً)، ومن قبلُ في التصوير الخيالي البديع لأنهار العسل؛ وغُدُوّ النحل إلى الأزهار ورواحها، لإنتاج عسل عجيب في طعمه ومذاقه؛ وقد توارى في بيوته الشمعية... فمهمة التخيل لبَّت عنده ما حرم منه في دنياه من شرب العسل والخمر؛ ولما شرب الخمرة في الآخرة كانت صفتها متماثلة مع ما عرف عنها وعن العسل في المفهوم الإسلامي... ولعل ذلك هو المعروف في مفهوم علم النفس الحديث بفلسفة التعويض عن الحرمان... فهو يتخيل، ويرسم لوحات تعبر عن رغباته، وأحلامه وهمومه... لوحات خيالية للجنة التي تحقق له النعيم والمتع بعد أن آل شيخاً هرماً ضَعيف الجسم. ولكن ضَعف جسمه ونُحوله لم يفتّ في إرادته، ولم يوهن عقله... وقد ظهرت براعة عقله، وقوته في الذّخيرة اللغوية والنقدية والأدبية والفنية في رسالة الغفران... ودلت-أيضاً-على دراية عالية بفقه القراءات، ودقة متناهية في تحليل كثير من الآراء الفلسفية والدينية والفكرية... فهو-مثلاً-يتخيل الشخصية المفتاح والرئيسية في قصة الغفران تنتقل من عالم الأزل إلى عالم الأبد وفق مبدأ التداعي الفني؛ وبخط زمني مستقيم؛ ومن ثم يلجأ إلى الدوران الزمني والمكاني في روضات الحيَّات من جنة الغفران... وفيها التقت بحيَّة كانت قد سكنت في الحياة الدنيا بدار الحسن البصري فسألتها: "فكيف سمعْتِه يقرأ؟!: {فالقُ الإصباح} (الأنعام 6/96) فإنه يروى عنه بفتح الهمزة؛ كأنه جمع صُبْح... فتقول: لقد سمعته يقرأ هذه القراءة، وكنت عليها برهة من الدهر؛ فلما توفي-رحمه الله-انتقلت إلى جدار في دار أبي عمرو بن العلاء؛ فسمعتُه يقرأ؛ فرغبتُ عن حروف من قراءة الحسن"(10).
ويتابع محاورته بينهما في إطار من التخييل المسرحي، والقصصي المدهش بعبارة دقيقة الاختزال لمعارف شتى، ومعانٍ عديدة... ويستنكر قراءات لحمزة بن حبيب سمعتها منه تلك الأَفعى بعد وفاة أبي عمرو، وانتقالها إلى جواره.(11)
فهذه واحدة من قصصه المشهدية المتخيلة المفترضة والمستندة إلى مفهوم التأليف السردي المبتكر في عالم أدب الخيال... وهو مما يعرف في عالم اليوم وسبق إليه المعري... فقد قام سرده للأحداث المتخيلة على لسان الشخصية المفتاح؛ التي نَمت على نحو واضح ذاتياً ومعرفياً، كأحدث ما تكون عليه الشخصية القصصية المركبة والمعقدة في قصص القرن العشرين... وكذلك كان سرده على لسان الشخصيات الثانوية-البسيطة؛ ولكنها شخصيات غير ضعيفة؛ وليست محايدة في الوقت نفسه... فهي إن لم تكن نامية إنما كانت تنقل الأحداث بقوة؛ فتتعاون فيما بينها، ومن ثم فيما بينها وبين الشخصية الرئيسية، مما جعلها ذات ملامح خاصة بها في التعبير عن أي شأن فني أو فكري... وهذا ما يعرف في عصرنا بالرواية المتعددة الأصوات، التي يرى المحدثون أن (وليم فولكنر) رائدها، ومن أفضل من كتب فيها.(12) وهذا ما ظنوه في أعمال (جي. دي. موبسان) و(دوستوفسكي) من جهة بناء القصة على أساس التحليل النفسي للشخصية، أو تلك التي اتجهت إلى الحوار الداخلي؛ كما هي عليه أعمال (جيمس جويس) ثم (صموئيل بيكيت) في المسرح الحديث. فقد تخلَّى (بيكيت) في بعض مسرحياته عن الصراعات النفسية في أزمنة تدوم حتى النهاية وتبنّى الحوار الداخلي بين الشخصيات وفق مفهوم تعدد الأصوات كمسرحيته (نهاية اللعبة) و(كوميديا) التي صدرت سنة (1963م).(13)
ونرى-أيضاً-أن السرد في قصة الغفران ومشاهدها قد اعتمد على آليات فنية متعددة، وطرائق سردية متنوعة دون أن تخرج من إطار مفهوم الخيال الأدبي. فمن يتأمل هذه الطرائق فإنه يلحظ طريقة السرد الذاتي لكاتب الغفران؛ وهذا ما رأيناه في بدايتها؛ ومن ثم أناب ابن القارح عنه برواية الأحداث والأخبار والأشعار، وغيرها. فابن القارح حلَّ محل المعري وصار سارداً (راوياً) عنه يعبر عن رؤيته الخاصة به...
ومن هنا وجدنا هذه الطريقة تتعانق مع قانون الإخبار الذي أشرنا إليه من قبل، بينما وجدنا طريقة السرد الموضوعي-أو ما يعرف بالسرد الخارجي-تتضافر مع قانون التصوير الموحي. فالسارد يتنحّى جانباً، ويقود الشخصيات إلى الحديث عما يريده، وفق مفهوم الرواية المتعددة الأصوات؛ مما يتيح له المجال إلى الوصف المطول (السرد التصويري) ليقول ما يشاء على لسان أي شخصية، أو في إطار الوصف-الحوار.
وبهذا كله حقق المعري لقصة الغفران صفة المرونة في البناء الفني التخييلي العجائبي؛ على صعيد العناصر القصصية كلها. فالأحداث والشخصيات متخيلة، وكذلك الزمان والمكان متخيلان... في الوقت الذي حقق لنفسه الحرية والقدرة على الانتقال من زمن إلى آخر... فالمعري عرف الزمن التعاقبي التتابعي والخطي الذي عرفته الأديان السماوية، ومزج بينه وبين الزمن النفسي، ثم حطمه بالزمن الدائري في بعض الحكايات المتخيلة... وتجسد ذلك حين انتقل بابن القارح من الأزل إلى الأبد؛ ومن ثم عرض للأحداث التي نسجها على لسانه عرضاً منطقياً تبعاً لما عرف من مفهوم الزمن التعاقبي عند أرسطو أيضاً. وهذا ما نجده-مثلاً-في حكايته المتخيلة مع زهير بن أبي سلمى وعبيد بن الأبرص وعدي بن زيد؛ ومنها قوله: "وينظر الشيخ في رياض الجنة فيرى قصرين منيفين؛ فيقول في نفسه: لأبلغن هذين القصرين فأسأل لمن هما؟ فإذا قرب إليهما رأى على أحدهما مكتوباً: هذا القصر لزهير بن أبي سلمى المُزَني، وعلى الآخر: هذا القصر لعبيد بن الأبرص؛ فيعجب من ذلك، ويقول: هذان ماتا في الجاهلية؛ ولكن رحمة ربنا وسعت كل شيء؛ وسوف ألتمس لقاء هذين الرجلين فأسألهما بمَ غُفر لهما؟! فيبتدئ بزهير؛ فيجده شاباً كالزهرة الجَنِيَّة، قد وُهب له قَصْر من وَنِيَّة؛ كأنه ما لبس جلباب هَرِم، ولا تأفف من البَرم... فيقول: أأنت أبو كعب وبُجَيْر؟ فيقول: نعم. فيقول-أدام الله عِزَّه: بم غُفر لك؛ وقد كنت في زمان الفترة؛ والناس هَمَلٌ، ولا يحسن منهم العمل؟! فيقول: كانت نفسي من الباطل نفوراً، فَصادفت ملكاً غفوراً، وكنت مؤمناً بالله العظيم"(14).
هذه حكاية ابن القارح مع زهير في اعتمادها على قانون الإخبار وقانون التصوير التخييلي والتخيلي... فلو قلت: إنها أقصوصة فهي أعظم بكثير من أقاصيص هذه الأيام، بكل ما تقوم عليه من عناصر فنية.. فإذا تغافلنا عن الحوار الداخلي-أو ما يعرف بالمنولوج-وهو يقدم بوساطته صورة نفسية عظيمة... وإذا تغافلنا عن الحوار الخارجي الشائق بين الشخصية الرئيسية (ابن القارح) وبين الشخصيات الثانوية (زهير)... وإذا تغافلنا عن المكان المتخيل لذلك القصر المنيف في الجنة... وإذا أهملنا بنية الحدث (الفكرة) التي نشأت في ذهن ابن القارح؛ وهو يطوف في رياض الجنة، ومن ثم رأى القصرين؛ ثم دفعه الفضول الذاتي إلى معرفة صاحبيهما... وإذا نسينا تعدد الأصوات المعبرة عن الحدث بلسان كل شخصية؛... نقول: إذا كان كذلك فلا يمكننا أن ننسى هذا التدرج البنائي في الأحداث الزمانية المستندة إلى الزمن التعاقبي المستقيم؛... ومن ثم القفز عليه وفق مبدأ التداعي مرة، والزمن الدائري مرة أخرى ليرتد إلى الماضي (أهل الفترة-أهل الجاهلية) ثم ينتقل بمنظور خطي إلى مفهوم الجزاء وفق المنظور الإسلامي...
ولا يسعنا-هنا-إلا أن نقول: إن المحدثين يرون أن مبدأ التداعي الفني-وهو الاسترجاع إلى الوراء من نهاية القصة، أو وسطها... أو أي جزء آخر فيها-إنما هو مبدأ فني روائي حديث يسترجع فيه القاص أحداث ماضي الشخصيات أو الأحداث... ولكن رأيهم غير دقيق؛ فقد أظهر المعري بكل جلاء ووضوح في الحكاية السابقة وفي أمثالها من قصص الغفران عناية فائقة بهذا المبدأ... وإن لم يسمّه أبو العلاء باسم (التداعي) أو (الاسترجاع) ومثله يقال في مصطلحات الزمن (التعاقبي) و(الخطي) و(الدائري) و(النفسي)... فأي باحث حصيف يتأمل قصة الغفران يقع على تقنيات ذلك كله؛ تطبيقاً لا تنظيراً؛ في صميم قانون الإخبار أو قانون التصوير الموحي، وفي إطار الزمان الذهني المتخيل الذي حقق له حرية كاملة في استخدام آليات الفن القصصي الحديث. فالزمن الذهني المفترض والمتخيل أتاح للمعري أن يقفز فوق الحقب الزمانية، والبيئات المكانية؛ ويحشد في صميمه عدداً غير قليل من الشخصيات التي تتحاور فيما بينها، وتصف كل ما يرغب فيه المعري... لهذا بث على لسانها كمّاً هائلاً من الرغبات والمشاعر والمعارف،(15) ورسم لوحات خيالية مثيرة لأهل الجنة والنار من الناس والجن والشياطين، وألقى على لسانهم الأشعار التي ألهموها الشعراء(16)؛ وكشف ملامح عدد من المذاهب الفكرية والدينية-كما ذكرنا من قبل-وكما نجده في وصفه لذلك الحيوان المفترس الذي لقيه في (الأعراف) فوشى وصفه له وحديثه معه بمسألة الجَبْر والقَدَر.(17)
ومن استجلى كل ما مضى رأى أن قانون الإخبار تحكم بأبي العلاء مثل قانون التصوير؛ وهو يبني رسالته بناء فنياً محكماً وفق تصور ذهني تخيلي مسبق ودقيق ومدرك لعناصر القص المعروفة اليوم... فهذا البناء الفني التخيلي أو التخييلي جاء ملبياً لأغراض المعري وأفكاره ومشاعره وثقافته؛ ولا سيما أنه حاول إبراز قدرته؛ فزج الكثير من الأخبار وغريب اللغة في رسالته حتى اتهم بالتعقيد.(18) وكذلك جاء ملبياً ومنسجماً مع طرائق السرد التي أشرنا إليها من قبل سواء كان السرد خارجياً أم داخلياً. ومن ينظر إليها بموضوعية يجد أن أبا العلاء لم يُنَظّر للبحث السردي ولكنه استنّه عملياً في صميم قانون الإخبار القائم على التصور الذهني التخيلي الافتراضي. فالسارد الداخلي ظهر بلا شك في شخصية ابن القارح مما جعل ضمير المتكلم أو الغائب يظهر بكثرة على لسانه؛ أما السارد الخارجي الذي يمثل أبا العلاء فقد ظهر في قانون التصوير-غالباً-لأنه يتولى عملية الشرح والوصف... بينما لم يظهر بصفته سارداً داخلياً إلا في مطلع أقسام رسالة الغفران. ولهذا مزج بين شخصية السارد المتخيل-الخارجي في قصص الغفران وبين شخصية المرسل على الحقيقة؛ وظهرتا بعد ضَمير المتكلم(19). ولا شيء أدل على ذلك مما جاء في أول الرسالة الجوابية، إذ بدأ بضمير المتكلم فقال: "فهمتُ قوله-جعلني الله فداءه". ثم أضاف إليه ضمير الغائب فقال: "وهذه غريزة خُصَّ بها الشيخ دون غيره.. لو قالت شيرين: جعلني الله فداءك... لخالَبْته في ذلك ونافقته..."(20).
وكذلك يمكن أن نمثل للحوار الداخلي والخارجي المتخيل بمثال واحد لكل من الشخصيات العجائبية؛ والإنسانية... ولعل من أبرز أنماط الحوار الإنساني المتخيل ما ورد في قصة توسل ابن القارح بالعِتْرة المطهرة حيث يقول: "فطفت في العِتْرة المُنْتَجبين؛ فقلت: إني كنت في الدار الذاهبة؛ إذا كتبت كتاباً وفرغت منه قلْتُ في آخره: وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين؛ وعلى عِتْرته الأخيار الطيبين. وهذه حُرْمة لي ووسيلة. فقالوا: ما نصنع بك؟! فقلت: إن مولاتنا (فاطمة)-عليها السلام-قد دخلت الجنة مذ دَهْرٍ، وإنها تخرج في كل حين مقدارُه أربع وعشرون ساعة من الدنيا الفانية، فتسلم على أبيها، وهو قائم لشهادة القضاء، ثم تعود إلى مستقرها من الجنان..."(21)
فإذا ترك المرء دلالة التوسل بالعِتْرة النبوية؛ وإيحاءاتها البعيدة فإنه لا يستطيع إهمال الإشارات الدقيقة المعبرة عن البناء الخيالي الأدبي المفترض في الذهن للفكرة والشخصيات والزمن، والحوار... والمكان... وهذا عينه ما يتمثل لنا في الحوار العجائبي المتخيل بين ابن القارح وإحدى الأفاعي في رياض الحيَّات، فضلاً عن مفهوم السرد الداخلي الذاتي أو ما يعرف بالمنولوج، ومنه: "وَيَهْكُر-أَزلفه الله مع الأبرار المتقين-لما سمع من تلك الحية، فتقول هي: ألا تقيم عندنا بُرْهة من الدهر؟ فإني إذا شئتُ انتفضتُ من إهابي فصِرت مثل أحسن غواني الجنة، لو ترشفتَ رضابي لعلمت أنه أفضل من الدِّرْياقة... فيُذْعر منها-جعل الله أمنه متصلاً... ويذهب مهرولاً في الجنة؛ ويقول في نفسه: كيف يُرْكن إلى حيَّة شرفها السُّمُّ، ولها بالفتكة هَمٌّ؟ فتناديه: هلمَّ، إن شئت اللذة."(22)
ويطالعنا مثل هذا الحوار المتخيل وفق مبدأ التداعي أو الاسترجاع الممزوج بفن الاستطراد لينقل لنا الثقافة العظيمة التي يتصف بها المعري كما نجده في جنة الأعراف التي دخلها الحطيئة بأبيات الهجاء التي هجا بها نفسه، لأنه كان صادقاً فيها، كما دخلتها الخنساء على أخيها صَخْر، وقد أُضْرمت النار في رأسه؛ وهو يقول لها: "لقد صحَّ مزعمك فيَّ" أي قولها:(23)
وإنَّ صَخْراً لتأتمُّ الهداة
توفيق- عضو متميز
- عدد الرسائل : 425
نقاط : 1075
تاريخ التسجيل : 09/09/2009
مواضيع مماثلة
» تابع أدب الخيال في رسالة الغفران
» أدب الخيال في رسالة الغفران
» بين الكوميديا الالهية لدانتي و رسالة الغفران للمعري
» كتاب رسالة الغفران لأبي العلاء المعري
» حقائق اغرب من الخيال
» أدب الخيال في رسالة الغفران
» بين الكوميديا الالهية لدانتي و رسالة الغفران للمعري
» كتاب رسالة الغفران لأبي العلاء المعري
» حقائق اغرب من الخيال
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الجمعة أبريل 12, 2024 4:10 pm من طرف سعداوي ربيع
» المتألقه ياسمين ابراهيم
الثلاثاء أكتوبر 10, 2023 8:54 pm من طرف سعداوي ربيع
» إستمتع بخدمة ultimate game pass لجهاز الإكسبوكس و الحاسوب
الخميس نوفمبر 24, 2022 10:35 pm من طرف lmandoo
» ربيع المؤمـــــــــــــــــــن
الثلاثاء نوفمبر 08, 2022 8:11 am من طرف سعداوي ربيع
» مشروع واحة الشاطيء شقق للبيع في مدينة دبي للاستديوهات
الخميس نوفمبر 03, 2022 9:21 pm من طرف lmandoo
» شركة حلول ميج للاستشارات وتطوير الأعمال
الثلاثاء أكتوبر 18, 2022 11:26 am من طرف lmandoo
» نانا اليوم اقوى الخصومات على كل المنتجات
الأربعاء أكتوبر 12, 2022 11:28 pm من طرف lmandoo
» مرام مالك فنانة غنائية سعودية
الإثنين سبتمبر 05, 2022 5:12 am من طرف lmandoo
» موقع تعليمي سعودي لتغطية كافة المناهج
الخميس أغسطس 25, 2022 11:44 pm من طرف lmandoo
» يونيريم للرعاية المنزلية UNIREM Home Care
الأربعاء أغسطس 17, 2022 3:49 am من طرف lmandoo
» ايه افضل بيوتى صالون فى حدئق الاهرام واكتوبر وزايد
السبت أغسطس 13, 2022 3:57 am من طرف lmandoo
» اشطر جراح عام دكتور عبد الوهاب رأفت
السبت أغسطس 13, 2022 2:21 am من طرف lmandoo
» اشطر جراح عام دكتور عبد الوهاب رأفت
الثلاثاء أغسطس 09, 2022 1:47 am من طرف lmandoo
» ايه افضل بيوتى صالون فى حدئق الاهرام واكتوبر وزايد
الثلاثاء أغسطس 09, 2022 1:37 am من طرف lmandoo
» مصممة الازياء رنا سمعان من نينوى العراق إلى العالمية
الإثنين أغسطس 08, 2022 3:45 am من طرف lmandoo