مـــــــــــــــــــــواعظ
من فضل الله على عباده تتابع مواسم الخيرات ومضاعفة الحسنات فالمؤمن يتقلب في ساعات عمره بين أنواع العبادات والقربات فلا يمضي من عمره ساعة إلا ولله فيها وظيفة من وظائف الطاعات وما أن يفرغ من عبادة إلا ويشرع في عبادة أخرى ولم يجعل الله حدا لطاعة العبد إلا انتهاء عمره وانقضاء أجله.
وبعد ان اتم الله لنا نعمة اكمال شهر الصيام والقيام ورتب عليه عظيم الأجر والثواب صيام ست أيام من شوال التي ثبت في فضائلها العديد من الأحاديث منها ما رواه الإمام مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال : ( من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر
المواضيع الأخيرة
بطاقات اسلامية
أدعية رمضانــــــــــية
في التفسير النفسي للأدب والابداع
صفحة 1 من اصل 1
في التفسير النفسي للأدب والابداع
في التفسيرالنفسي للأدب ..
أو ...سلطة الكاتب
بقلم: محمد عزَّام
*******
بناء على طلب الأخت عبير للحصول على بعض الموضوعات ذات الصلة بعلم النفس الأدبي نقدم لها هذه المساهمة للاستاذ محمد عزام وهي في صميم الموضوع .وسنقدم غيرها في أوانه بعون الله
******
بدأ الاهتمام بالكاتب (أو المؤلف أو المبدع) مع نشأة العلوم البيولوجية والدراسات السيكولوجية. وظهر هذا الاهتمام في المدرسة النفسية، والمدرسة الرومانسية. فإذا أخذنا المدرسة النفسية في الأدب والنقد نموذجاً على (سلطة الكاتب) تبين أن أول من عني بالتفسير النفسي للأدب هو الناقد الفرنسي (سانت بيف) الذي أنشأ سلسلة من المقالات باسم (صور المؤلفين)، ممهداً بها لنقد يحاول اكتشاف (نفسيّة المؤلف)، حيث جمع مواد كثيرة عن أصول المؤلف، ونشأته، وسيرته الذاتية، وعلاقته بمجتمعه، من أجل كشف الحالة النفسية التي تسلطت على الأديب أثناء إبداعه الأدبي.
كذلك اهتم (كولردج) بذاتية الأديب، فوضع كتاب (السيرة الأدبية) عام 1817 عدّه النقاد (إنجيل النقد الحديث). وقد أثار فيه قضايا أدبية، منذ اختمارها في نفس الكاتب، حتى ظهورها في شكل فني.
ثم جاء فرويد (1856-1939)، فتجاوز المقولات التي تردّ الإبداع إلى الإلهام أو الواقع الاجتماعي، وجعل اللاشعور الشخصي هو المصدر الحقيقي للإبداع. فالإبداع ـ حسب فرويد ـ هو تنفيس عن الصراع المعتمل داخل الشخصية، والمتمثل في القمع والكبت، والمتطلع إلى أنواع شتى من السلوك، أرفعها التسامي الذي يؤدي إلى إظهار العبقرية. وهو رغبة لم تجد تلبية لها في عالم الواقع، فانصرفت إلى عالم الخيال. وبهذا يبدو الإبداع تعويضاً عن غرض أدنى بغرض أسمى.
وبوساطة التسامي يفرغ الأديب شحنته، مستبدلاً الهدف الذي لم يحققه بهدف ذي قيمة اجتماعية كالكتابة الأدبية. وعلى هذا فإن فرويد يرى الأدباء والفنانين مرضى يخفون عقدهم في إبداعهم. ومهمة الناقد هي البحث في التحولات التي أجراها المبدع لتغطية مكبوتة بمكتوبة.
وعلى الرغم من أن (فرويد) يعترف بعجز التحليل النفسي عن إدراك طبيعة الإبداع الأدبي والفني، فإنه نشر ثلاث دراسات عن التحليل النفسي للأدب، عن ليوناردو دافنشي، ودستويفسكي، وينشن: ففي دراسته لدافنشي بنى سيرة للفنان ولمكبوتاته الجنسية التي ظهرت في شذوذه الجنسي. وفي دراسته لدستويفسكي عني بتفسير الصراع الهستيري الذي كان يصيب دستويفسكي، ورغبته الأوديبية في قتل الأب.
وقد حقّق التفسير النفسي للأدب فتوحات جديدة: فقد كان تردد (هاملت) مثلاً يُرَدُّ ـ في المناهج النقدية القديمة ـ إلى جبنه، وإلى تأمله الذي أضعف قدرته على العمل، فأصبح ـ في التفسير النفسي ـ يُرَدُّ إلى ضراوة الصراع النفسي الذي يضطرم داخله ويشلّ قدرته على العمل.
وقد اعتبر فرويد الأدباء أقدر على تحليل نفسيات شخوصهم عن علماء النفس في عياداتهم، فقال:"إن الشعراء والقصاصين يعرفون أشياء كثيرة ما تزال حكمتنا المدرسية قاصرة عن فهمها. إنهم أساتذتنا في إدراك النفس".
لكن أتباع (فرويد) تطرفوا في تفسير الأعمال الإبداعية، فذهب (إدلر) إلى أن الإبداع هو تعويض عن (عقدة النقص) التي يعاني منها المبدع. وقسم (يونغ) اللاشعور إلى نوعين: لا شعور شخصي ولا شعور جمعي. وإذا كان (فرويد) قد ركز على اللاشعور الشخصي ومكبوتاته، فإن تلميذه (يونغ) ركز على اللاشعور الجمعي المتوارث، والذي هو واحد عند جميع الناس. ومنه يستمد الأدباء والفنانون صورهم وأخيلتهم. وعلى أساسه نشأ (النقد الأسطوري) الذي يُعنى بالنماذج الأساسية: كنموذج الولادة الجديدة، والبعث.... الخ.
وعلى الرغم من أن النقد النفسي يبدو متطفلاً على الأدب، وإنه يحشر الأدباء في زمرة المرضى، وينسى حياتهم اليومية، فإنه أنار كثيراً من غوامض الإبداع والرموز التي كانت مستغلقة في وجوه النقاد.
*
ـ المنهج النفسي في النقد العربي:
يمكن القول إنه في نقدنا القديم (نظرات) نفسية (لا نظريات): فقد أشار إلى المحفّزات على قول الشعر: فقد روي أن عبد الملك بن مروان سأل أرطأة بن سهيّة: "أتقول الشعر اليوم؟ فقال: والله ما أطرب، ولا أغضب، ولا أرغب. وإنما يجيء الشعر عند إحداهن"(1). وهذه (البواعث) تثير التوترات النفسية التي تدفع إلى قول الشعر نجدها عند أكثر من شاعر: فدعبل بن علي الخزاعي يقول: "مَنْ أراد المديح فبالرغبة، ومَنْ أراد الهجاء فبالبغضاء، ومَنْ أراد التشبيب فبالشوق والعشق، ومَنْ أراد المعاتبة فبالاستبطاء"(2). وأبو تمام يوصي تلميذه البحتري بقوله: "اجعل شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه، فإن الشهوة نعم المعين".(3).
*
ـ المنهج النفسي في النقد العربي الحديث:
في منتصف القرن العشرين، ونتيجة لمثاقفة نقادنا مع الغرب، أُثير الاهتمام بالمنهج النفسي في تفسير الأدب، فتبناه أمين الخولي، وحامد عبد القادر في كتابه (دراسات في علم النفس الأدبي)، ومحمد خلف الله في كتابه (من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده)1947، ومحمد النويهي في كتابه (ثقافة الناقد الأدبي) 1949 الذي حلل فيه شخصية ابن الرومي اعتماداً على بيولوجيته، وأرجع تشاؤمه إلى اختلال وظائفه العصبية والجسدية. ثم وضع كتابه (نفسية أبي نواس)1953 حلل فيه شخصية أ بي نواس اعتماداً على (عقدة أوديب)، التي اكتشفها (فرويد)، وعلى اللاشعور الجمعي الذي اكتشفه (يونغ). وعلّل إدمانه الخمرة بكونها تعويضاً عن مكبوتاته النفسية، وعن حنان أمه التي حرم منها منذ وقت مبكر من طفولته، حين تزوجت بعد وفاة أبيه، فأورثه هذا شذوذاً جنسياً يتمثل في النفور من النساء، بوصفهن ـ كأمه ـ خائنات. وقد دفع به نفوره من النساء إلى البحث عن (تعويض) فوجده في الغلمان حيناً، وفي الخمرة حيناً آخر. فتخيّل الخمرة أنثى، وخلع عليها صفات الأنوثة المغرية المثيرة التي يجدها الرجال العاديين في المرأة، ووصفها بالبكارة والعذرية، وسماها فتاة وبنتاً وجارية وعواناً، وأوهم نفسه أنه حين يمزّق دنّها فإنما يمزق غشاء البكارة عن عذراء.
كما اهتم عباس محمود العقاد بشخصيات الشعراء، فتتّبع سيرهم الذاتية، ورصد شخصياتهم، من أجل النفاذ إلى أسرار إبداعهم. فحلّل شخصية ابن الرومي في كتابه (ابن الرومي:حياته من شعره) 1963، درس فيه أصله، ونشأته، ومزاجه، وتكوينه النفسي والجسدي. وأرجع تشاؤمه إلى اختلال في أعصابه، وسخريته إلى خصائصه الجسدية. كما ردَّ عبقريته إلى أصوله اليونانية، وإلى الطيرة التي استحكمت به. ثم وضع كتابه (أبو نواس: دراسة في التحليل النفساني والنقد التاريخي) حلل فيه شخصية أبي نواس، وأظهر (عقده النرجسية) لديه، وعلى ضوئها فسّر مجونه، معتمداً على (فرويد) و(إدلر)، و(يونغ)، و(فروم). ورأى أنه كان جميلاً مفتوناً بمحاسنه، بسبب نقص غدد رجولته، وأنه لقي من أمه دلالاً زائداً بسبب شيخوختها، فاتخذها قدوة، مما وطّد له سبيل الانحراف عن الولع بالنساء إلى الولع بالرجال.
وتناول طه حسين شخصية (المتنبي) في نشأته، فرأى أنه كان يتستّر على معرفة أبيه وأمه ويتجاهلهما في الوقت الذي كان الناس فيه يتفاخرون بالأنساب. وأنه اتصل بالقرامطة لأنه كان مثلهم ثائراً على الأوضاع في بغداد. ثم تتبع حياته في بلاد سيف الدولة، فرأى أنه شغل نفسه بحركة الحياة الخصبة التي كان يحياها سيف الدولة، وأنه أظهر نفحة الحزن عند كافور عندما وجد نفسه سجين العناء والمرارة. كما درس طه حسين شخصية (المعري) فردّ ولعه بالتلاعب بالألفاظ إلى أنه عاش نصف قرن (رهين المحبسين): محبس البيت، ومحبس العمى. فطال عليه الزمن حتى ملَّه، فلجأ إلى قتل الوقت بالتلاعب بالألفاظ.
ودرس شوقي ضيف شخصية (عمر بن أبي ربيعة) فاستفاد من علم النفس، ووقف عند ظاهرة جديدة في الشعر العربي جاء بها عمر هي تحويل الغزل من المرأة إلى الرجل؛ فالمعهود هو أن يتغزل الرجل بالمرأة، لا العكس كما حدث مع عمر الذي أصبح هو المعشوق لا العاشق. وفسّر الناقد هذا التحول بأن عمر كفلته أمه بعد موت أبيه، فقامت على تربيته، وتعلقت به بوصفه وحيداً وجميلاً. وأغدقت عليه من فيض حنانها ودلالها. فانعكس ذلك إعجاباً بنفسه في شعره: فالنساء هن اللواتي يطلبنه، ويعشقنه، ويرغبن في وصله، بينما يختال هو عليهن، ويتأبى ويتمنّع إعجاباً بنفسه. وهذا الإعجاب الزائد بالنفس هو ما سماه علماء النفس بـ(النرجسية)(4).
ثم أصدر عز الدين اسماعيل كتابه (التفسير النفسي للأدب) عام 1963 عالج فيه عملية الإبداع الأدبي، فرآها وليدة اللاشعور، وأنها كالحلم، تتخذ من الرموز أو الصور النفسية ما ينفّس عن الرغبات. كما حلل نفسية المبدع، ورأى أنه قد يكون عصابياً، ولكنه ليس مجنوناً. وعصابه لا دخل له في قدرته على الإبداع، لأنه حين يبدع يكون في حالة جيدة من الصحة النفسية، كما أنه ليس نرجسياً، لأنه حين يبدع يعوّض بإبداعه الأدبي عن نرجسيته.
ثم نشر خريستو نجم كتاب (النرجسية في أدب نزار قباني) عام 1983 قرأ فيه شعر نزار على ضوء (عقدة النرجسية) في التحليل النفسي. وهي عقدة مرضية تبتدئ في طفولة كل طفل، حيث يمر بالمراحل الثلاث: الفمية، والشرجية، والقضيبية. وقد تتبع الباحث تطور هذه المراحل في حياة نزار، واعتبر انتحار أخته إسهاماً في تسامي مشاعر الشاعر السلبية. فغدا الشاعر أنثوي الإحساس، يعبّر عن مشاعر المرأة الرقيقة.
ولكن عقدة (النرجسية) تنزاح عند الباحث ليجعل من الشاعر انطوائياً! وسادياً! ومازوشياً! وأوديبيا! ودون جواناً! مسلّطاً على شخصية نزار كل هذه العقد النفسية. كما تجاوز الناقد الأخذ من فرويد ليأخذ من معظم المدارس النفسية.
لكن المآخذ على النقد النفسي تتمثل في أن ممارسيه، هم في الأغلب، علماء وأطباء لا أدباء أو نقاداً. وقد اتخذوا الأدب وسيلة لخدمة ميدانهم المعرفي، وليس لخدمة الأدب أو النقد. وقد اعترف (فرويد) بذلك حين قال: "إن التحليل النفسي لا يستطيع أن يدرس الإنسان من حيث هو فنان، ولا أن يطلعنا على طبيعة الإنتاج الفني"(5). كما اعترف (يونغ) بذلك فقال: "إن المنهج الذي يمكن الوصول عن طريقه إلى حقيقة الفن لابد أن يكون منهجاً فنياً"(6).
كما أن النقاد النفسيين اهتموا بشخصية ا لأديب على حساب أدبه، وتسرّعوا في استخلاص النتائج دون التمثل الجيد لمقولات علم النفس: فالعقاد يرسم لابن الرومي صورة جسمانية تفضي إلى صورة نفسية. والنويهي يمهد لبحثه بمقدمة طويلة في علم وظائف الغدد والأعضاء قبل أن يدخل "فأر التجارب" ابن الرومي إلى المختبر، ثم يعزله عن عصره، وبيئته، ومجتمعه لينتهي إلى تفسير عبقريته بمرضه العقلي، وبعقدة الفشل الناجمة عن عدم تحقيق رغباته التي تتعارض مع الواقع. مما دفع الشاعر إلى التعويض، حسب (فرويد). وهكذا نجد أن سلطة الكاتب (أو المؤلف أو المبدع) التي أعلت المدرسة النفسية والرومانسية من شأنها، قد وصلت إلى ذروة الاهتمام بها لديهما. ولكن الانحسار سيأتي لاحقاً، حيث سيتحول الاهتمام إلى (النص) الأدبي.
هوامش:
(1)ـ ابن رشيق ـ العمدة1/120.
(2)ـ نفسه1/121.
(3)ـ حازم القرطاجني ـ منهاج البلغاء ـ تونس1966ـ ص203.
(4)ـ شوقي ضيف ـ التطور والتجديد في الشعر الأموي ـ دار المعارف بمصر، ص240-255.
(5)ـ نقلاً عن فيدوح ـ الاتجاه النفسي في النقد العربي ص213.
أو ...سلطة الكاتب
بقلم: محمد عزَّام
*******
بناء على طلب الأخت عبير للحصول على بعض الموضوعات ذات الصلة بعلم النفس الأدبي نقدم لها هذه المساهمة للاستاذ محمد عزام وهي في صميم الموضوع .وسنقدم غيرها في أوانه بعون الله
******
بدأ الاهتمام بالكاتب (أو المؤلف أو المبدع) مع نشأة العلوم البيولوجية والدراسات السيكولوجية. وظهر هذا الاهتمام في المدرسة النفسية، والمدرسة الرومانسية. فإذا أخذنا المدرسة النفسية في الأدب والنقد نموذجاً على (سلطة الكاتب) تبين أن أول من عني بالتفسير النفسي للأدب هو الناقد الفرنسي (سانت بيف) الذي أنشأ سلسلة من المقالات باسم (صور المؤلفين)، ممهداً بها لنقد يحاول اكتشاف (نفسيّة المؤلف)، حيث جمع مواد كثيرة عن أصول المؤلف، ونشأته، وسيرته الذاتية، وعلاقته بمجتمعه، من أجل كشف الحالة النفسية التي تسلطت على الأديب أثناء إبداعه الأدبي.
كذلك اهتم (كولردج) بذاتية الأديب، فوضع كتاب (السيرة الأدبية) عام 1817 عدّه النقاد (إنجيل النقد الحديث). وقد أثار فيه قضايا أدبية، منذ اختمارها في نفس الكاتب، حتى ظهورها في شكل فني.
ثم جاء فرويد (1856-1939)، فتجاوز المقولات التي تردّ الإبداع إلى الإلهام أو الواقع الاجتماعي، وجعل اللاشعور الشخصي هو المصدر الحقيقي للإبداع. فالإبداع ـ حسب فرويد ـ هو تنفيس عن الصراع المعتمل داخل الشخصية، والمتمثل في القمع والكبت، والمتطلع إلى أنواع شتى من السلوك، أرفعها التسامي الذي يؤدي إلى إظهار العبقرية. وهو رغبة لم تجد تلبية لها في عالم الواقع، فانصرفت إلى عالم الخيال. وبهذا يبدو الإبداع تعويضاً عن غرض أدنى بغرض أسمى.
وبوساطة التسامي يفرغ الأديب شحنته، مستبدلاً الهدف الذي لم يحققه بهدف ذي قيمة اجتماعية كالكتابة الأدبية. وعلى هذا فإن فرويد يرى الأدباء والفنانين مرضى يخفون عقدهم في إبداعهم. ومهمة الناقد هي البحث في التحولات التي أجراها المبدع لتغطية مكبوتة بمكتوبة.
وعلى الرغم من أن (فرويد) يعترف بعجز التحليل النفسي عن إدراك طبيعة الإبداع الأدبي والفني، فإنه نشر ثلاث دراسات عن التحليل النفسي للأدب، عن ليوناردو دافنشي، ودستويفسكي، وينشن: ففي دراسته لدافنشي بنى سيرة للفنان ولمكبوتاته الجنسية التي ظهرت في شذوذه الجنسي. وفي دراسته لدستويفسكي عني بتفسير الصراع الهستيري الذي كان يصيب دستويفسكي، ورغبته الأوديبية في قتل الأب.
وقد حقّق التفسير النفسي للأدب فتوحات جديدة: فقد كان تردد (هاملت) مثلاً يُرَدُّ ـ في المناهج النقدية القديمة ـ إلى جبنه، وإلى تأمله الذي أضعف قدرته على العمل، فأصبح ـ في التفسير النفسي ـ يُرَدُّ إلى ضراوة الصراع النفسي الذي يضطرم داخله ويشلّ قدرته على العمل.
وقد اعتبر فرويد الأدباء أقدر على تحليل نفسيات شخوصهم عن علماء النفس في عياداتهم، فقال:"إن الشعراء والقصاصين يعرفون أشياء كثيرة ما تزال حكمتنا المدرسية قاصرة عن فهمها. إنهم أساتذتنا في إدراك النفس".
لكن أتباع (فرويد) تطرفوا في تفسير الأعمال الإبداعية، فذهب (إدلر) إلى أن الإبداع هو تعويض عن (عقدة النقص) التي يعاني منها المبدع. وقسم (يونغ) اللاشعور إلى نوعين: لا شعور شخصي ولا شعور جمعي. وإذا كان (فرويد) قد ركز على اللاشعور الشخصي ومكبوتاته، فإن تلميذه (يونغ) ركز على اللاشعور الجمعي المتوارث، والذي هو واحد عند جميع الناس. ومنه يستمد الأدباء والفنانون صورهم وأخيلتهم. وعلى أساسه نشأ (النقد الأسطوري) الذي يُعنى بالنماذج الأساسية: كنموذج الولادة الجديدة، والبعث.... الخ.
وعلى الرغم من أن النقد النفسي يبدو متطفلاً على الأدب، وإنه يحشر الأدباء في زمرة المرضى، وينسى حياتهم اليومية، فإنه أنار كثيراً من غوامض الإبداع والرموز التي كانت مستغلقة في وجوه النقاد.
*
ـ المنهج النفسي في النقد العربي:
يمكن القول إنه في نقدنا القديم (نظرات) نفسية (لا نظريات): فقد أشار إلى المحفّزات على قول الشعر: فقد روي أن عبد الملك بن مروان سأل أرطأة بن سهيّة: "أتقول الشعر اليوم؟ فقال: والله ما أطرب، ولا أغضب، ولا أرغب. وإنما يجيء الشعر عند إحداهن"(1). وهذه (البواعث) تثير التوترات النفسية التي تدفع إلى قول الشعر نجدها عند أكثر من شاعر: فدعبل بن علي الخزاعي يقول: "مَنْ أراد المديح فبالرغبة، ومَنْ أراد الهجاء فبالبغضاء، ومَنْ أراد التشبيب فبالشوق والعشق، ومَنْ أراد المعاتبة فبالاستبطاء"(2). وأبو تمام يوصي تلميذه البحتري بقوله: "اجعل شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه، فإن الشهوة نعم المعين".(3).
*
ـ المنهج النفسي في النقد العربي الحديث:
في منتصف القرن العشرين، ونتيجة لمثاقفة نقادنا مع الغرب، أُثير الاهتمام بالمنهج النفسي في تفسير الأدب، فتبناه أمين الخولي، وحامد عبد القادر في كتابه (دراسات في علم النفس الأدبي)، ومحمد خلف الله في كتابه (من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده)1947، ومحمد النويهي في كتابه (ثقافة الناقد الأدبي) 1949 الذي حلل فيه شخصية ابن الرومي اعتماداً على بيولوجيته، وأرجع تشاؤمه إلى اختلال وظائفه العصبية والجسدية. ثم وضع كتابه (نفسية أبي نواس)1953 حلل فيه شخصية أ بي نواس اعتماداً على (عقدة أوديب)، التي اكتشفها (فرويد)، وعلى اللاشعور الجمعي الذي اكتشفه (يونغ). وعلّل إدمانه الخمرة بكونها تعويضاً عن مكبوتاته النفسية، وعن حنان أمه التي حرم منها منذ وقت مبكر من طفولته، حين تزوجت بعد وفاة أبيه، فأورثه هذا شذوذاً جنسياً يتمثل في النفور من النساء، بوصفهن ـ كأمه ـ خائنات. وقد دفع به نفوره من النساء إلى البحث عن (تعويض) فوجده في الغلمان حيناً، وفي الخمرة حيناً آخر. فتخيّل الخمرة أنثى، وخلع عليها صفات الأنوثة المغرية المثيرة التي يجدها الرجال العاديين في المرأة، ووصفها بالبكارة والعذرية، وسماها فتاة وبنتاً وجارية وعواناً، وأوهم نفسه أنه حين يمزّق دنّها فإنما يمزق غشاء البكارة عن عذراء.
كما اهتم عباس محمود العقاد بشخصيات الشعراء، فتتّبع سيرهم الذاتية، ورصد شخصياتهم، من أجل النفاذ إلى أسرار إبداعهم. فحلّل شخصية ابن الرومي في كتابه (ابن الرومي:حياته من شعره) 1963، درس فيه أصله، ونشأته، ومزاجه، وتكوينه النفسي والجسدي. وأرجع تشاؤمه إلى اختلال في أعصابه، وسخريته إلى خصائصه الجسدية. كما ردَّ عبقريته إلى أصوله اليونانية، وإلى الطيرة التي استحكمت به. ثم وضع كتابه (أبو نواس: دراسة في التحليل النفساني والنقد التاريخي) حلل فيه شخصية أبي نواس، وأظهر (عقده النرجسية) لديه، وعلى ضوئها فسّر مجونه، معتمداً على (فرويد) و(إدلر)، و(يونغ)، و(فروم). ورأى أنه كان جميلاً مفتوناً بمحاسنه، بسبب نقص غدد رجولته، وأنه لقي من أمه دلالاً زائداً بسبب شيخوختها، فاتخذها قدوة، مما وطّد له سبيل الانحراف عن الولع بالنساء إلى الولع بالرجال.
وتناول طه حسين شخصية (المتنبي) في نشأته، فرأى أنه كان يتستّر على معرفة أبيه وأمه ويتجاهلهما في الوقت الذي كان الناس فيه يتفاخرون بالأنساب. وأنه اتصل بالقرامطة لأنه كان مثلهم ثائراً على الأوضاع في بغداد. ثم تتبع حياته في بلاد سيف الدولة، فرأى أنه شغل نفسه بحركة الحياة الخصبة التي كان يحياها سيف الدولة، وأنه أظهر نفحة الحزن عند كافور عندما وجد نفسه سجين العناء والمرارة. كما درس طه حسين شخصية (المعري) فردّ ولعه بالتلاعب بالألفاظ إلى أنه عاش نصف قرن (رهين المحبسين): محبس البيت، ومحبس العمى. فطال عليه الزمن حتى ملَّه، فلجأ إلى قتل الوقت بالتلاعب بالألفاظ.
ودرس شوقي ضيف شخصية (عمر بن أبي ربيعة) فاستفاد من علم النفس، ووقف عند ظاهرة جديدة في الشعر العربي جاء بها عمر هي تحويل الغزل من المرأة إلى الرجل؛ فالمعهود هو أن يتغزل الرجل بالمرأة، لا العكس كما حدث مع عمر الذي أصبح هو المعشوق لا العاشق. وفسّر الناقد هذا التحول بأن عمر كفلته أمه بعد موت أبيه، فقامت على تربيته، وتعلقت به بوصفه وحيداً وجميلاً. وأغدقت عليه من فيض حنانها ودلالها. فانعكس ذلك إعجاباً بنفسه في شعره: فالنساء هن اللواتي يطلبنه، ويعشقنه، ويرغبن في وصله، بينما يختال هو عليهن، ويتأبى ويتمنّع إعجاباً بنفسه. وهذا الإعجاب الزائد بالنفس هو ما سماه علماء النفس بـ(النرجسية)(4).
ثم أصدر عز الدين اسماعيل كتابه (التفسير النفسي للأدب) عام 1963 عالج فيه عملية الإبداع الأدبي، فرآها وليدة اللاشعور، وأنها كالحلم، تتخذ من الرموز أو الصور النفسية ما ينفّس عن الرغبات. كما حلل نفسية المبدع، ورأى أنه قد يكون عصابياً، ولكنه ليس مجنوناً. وعصابه لا دخل له في قدرته على الإبداع، لأنه حين يبدع يكون في حالة جيدة من الصحة النفسية، كما أنه ليس نرجسياً، لأنه حين يبدع يعوّض بإبداعه الأدبي عن نرجسيته.
ثم نشر خريستو نجم كتاب (النرجسية في أدب نزار قباني) عام 1983 قرأ فيه شعر نزار على ضوء (عقدة النرجسية) في التحليل النفسي. وهي عقدة مرضية تبتدئ في طفولة كل طفل، حيث يمر بالمراحل الثلاث: الفمية، والشرجية، والقضيبية. وقد تتبع الباحث تطور هذه المراحل في حياة نزار، واعتبر انتحار أخته إسهاماً في تسامي مشاعر الشاعر السلبية. فغدا الشاعر أنثوي الإحساس، يعبّر عن مشاعر المرأة الرقيقة.
ولكن عقدة (النرجسية) تنزاح عند الباحث ليجعل من الشاعر انطوائياً! وسادياً! ومازوشياً! وأوديبيا! ودون جواناً! مسلّطاً على شخصية نزار كل هذه العقد النفسية. كما تجاوز الناقد الأخذ من فرويد ليأخذ من معظم المدارس النفسية.
لكن المآخذ على النقد النفسي تتمثل في أن ممارسيه، هم في الأغلب، علماء وأطباء لا أدباء أو نقاداً. وقد اتخذوا الأدب وسيلة لخدمة ميدانهم المعرفي، وليس لخدمة الأدب أو النقد. وقد اعترف (فرويد) بذلك حين قال: "إن التحليل النفسي لا يستطيع أن يدرس الإنسان من حيث هو فنان، ولا أن يطلعنا على طبيعة الإنتاج الفني"(5). كما اعترف (يونغ) بذلك فقال: "إن المنهج الذي يمكن الوصول عن طريقه إلى حقيقة الفن لابد أن يكون منهجاً فنياً"(6).
كما أن النقاد النفسيين اهتموا بشخصية ا لأديب على حساب أدبه، وتسرّعوا في استخلاص النتائج دون التمثل الجيد لمقولات علم النفس: فالعقاد يرسم لابن الرومي صورة جسمانية تفضي إلى صورة نفسية. والنويهي يمهد لبحثه بمقدمة طويلة في علم وظائف الغدد والأعضاء قبل أن يدخل "فأر التجارب" ابن الرومي إلى المختبر، ثم يعزله عن عصره، وبيئته، ومجتمعه لينتهي إلى تفسير عبقريته بمرضه العقلي، وبعقدة الفشل الناجمة عن عدم تحقيق رغباته التي تتعارض مع الواقع. مما دفع الشاعر إلى التعويض، حسب (فرويد). وهكذا نجد أن سلطة الكاتب (أو المؤلف أو المبدع) التي أعلت المدرسة النفسية والرومانسية من شأنها، قد وصلت إلى ذروة الاهتمام بها لديهما. ولكن الانحسار سيأتي لاحقاً، حيث سيتحول الاهتمام إلى (النص) الأدبي.
هوامش:
(1)ـ ابن رشيق ـ العمدة1/120.
(2)ـ نفسه1/121.
(3)ـ حازم القرطاجني ـ منهاج البلغاء ـ تونس1966ـ ص203.
(4)ـ شوقي ضيف ـ التطور والتجديد في الشعر الأموي ـ دار المعارف بمصر، ص240-255.
(5)ـ نقلاً عن فيدوح ـ الاتجاه النفسي في النقد العربي ص213.
(6)ـ نقلاً عن مصطفى سويف ـ الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة ـ دار المعارف بمصر ـ 1981ص88
مواضيع مماثلة
» إعلان الارشاد النفسي
» أين الخطاب النفسي ...السليم؟؟
» الطب النفسي في الحديث النبوي
» مساعدة الآخرين تعالج التوتر النفسي
» التهيئة و الاستعداد النفسي لاستقبال شهر رمضان
» أين الخطاب النفسي ...السليم؟؟
» الطب النفسي في الحديث النبوي
» مساعدة الآخرين تعالج التوتر النفسي
» التهيئة و الاستعداد النفسي لاستقبال شهر رمضان
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الجمعة أبريل 12, 2024 4:10 pm من طرف سعداوي ربيع
» المتألقه ياسمين ابراهيم
الثلاثاء أكتوبر 10, 2023 8:54 pm من طرف سعداوي ربيع
» إستمتع بخدمة ultimate game pass لجهاز الإكسبوكس و الحاسوب
الخميس نوفمبر 24, 2022 10:35 pm من طرف lmandoo
» ربيع المؤمـــــــــــــــــــن
الثلاثاء نوفمبر 08, 2022 8:11 am من طرف سعداوي ربيع
» مشروع واحة الشاطيء شقق للبيع في مدينة دبي للاستديوهات
الخميس نوفمبر 03, 2022 9:21 pm من طرف lmandoo
» شركة حلول ميج للاستشارات وتطوير الأعمال
الثلاثاء أكتوبر 18, 2022 11:26 am من طرف lmandoo
» نانا اليوم اقوى الخصومات على كل المنتجات
الأربعاء أكتوبر 12, 2022 11:28 pm من طرف lmandoo
» مرام مالك فنانة غنائية سعودية
الإثنين سبتمبر 05, 2022 5:12 am من طرف lmandoo
» موقع تعليمي سعودي لتغطية كافة المناهج
الخميس أغسطس 25, 2022 11:44 pm من طرف lmandoo
» يونيريم للرعاية المنزلية UNIREM Home Care
الأربعاء أغسطس 17, 2022 3:49 am من طرف lmandoo
» ايه افضل بيوتى صالون فى حدئق الاهرام واكتوبر وزايد
السبت أغسطس 13, 2022 3:57 am من طرف lmandoo
» اشطر جراح عام دكتور عبد الوهاب رأفت
السبت أغسطس 13, 2022 2:21 am من طرف lmandoo
» اشطر جراح عام دكتور عبد الوهاب رأفت
الثلاثاء أغسطس 09, 2022 1:47 am من طرف lmandoo
» ايه افضل بيوتى صالون فى حدئق الاهرام واكتوبر وزايد
الثلاثاء أغسطس 09, 2022 1:37 am من طرف lmandoo
» مصممة الازياء رنا سمعان من نينوى العراق إلى العالمية
الإثنين أغسطس 08, 2022 3:45 am من طرف lmandoo