القصيدة الصداحة المجلجلة تفقد فارسها ...

القصيدة الصداحة المجلجلة تفقد فارسها .
درويش في ذمة الله .( 1941 ــ 2008 )..

بقلم الأستاذ : محمد بن زعبار .

● عرفت ساحة الشعر الفصيح أصواتا صدحت في سماء الأدب وألهبت الناس ، وحركت فيهم روح التوثب إلى علياء الكلمة ، الحرة النزيهة والأبية ، وعرف الأدب من خلال هذه الأصوات انطلاقة موعودة غذتها نزعة الانعتاق والتحرر من سلاسل القهر ومن براثن الجبروت ـ فكانت موجة الكلمة المجلجلة الصداحة في أوساط أمتنا وبين وسطني شعوبنا المنهكة بالجراحات ، جراحات لا تزال تنزف ولا تزال الأمة تئن أنينها المفجع دونما التفاتة إلى مصابها الجلل ...

فلسطين كانت ولا تزال محط الإلهام الأكبر ومنزل الثورة الأضخم والأعم ففيها ومن ثراها جاءتنا أصوات الثورة وتعرفنا على سجالات الأحرار ومكابدات الشرفاء .

قرأنا لسميح القاسم قصائده المجلجلة وقرأنا أيضا لدرويش شعرا جميلا يتغني عن فلسطين :

فلسطينية كانت ولم تزل :

كلامك ِكان أغنية

وكنتُ أحاول الإنشاد

ولكن الشقاء أحاط بالشقة الربيعية .

كلامك ، كالسنونو ، طار من بيتي .

فهاجر باب منزلنا ، وعتبتنا الخريفية .

وراءك .. حيث شاء الشوق ..

وانكسرت مرايانا

فصار الحزن ألفين .

ولملمنا شظايا الصوت ..

لم تتقن سوى مرثية الوطن !

سنزرعها معا في صدر قيثار

وفوق سطوح نكبتنا ، سنعزفها

لأقمار مشوهة ، وأحجار ...

وأقسم :

من رموش العين ،سوف أخيط منديلا

وانقش فوقه شعرا لعينيك

واسما حين أسقيه فؤادا ذاب ترتيلا..

سأكتب جملة أغلى من الشهداء والقبل :

( فلسطينية كانت .. ولم تزل ).

ومن خلال ما قرأنا ازددنا تعلقنا بقضيتنا الأساس ، وتهنا حبا في ثراها ، فهي قضيتنا الأولى ، ولا فخر أنها مرتبطة بجوهر عقيدتنا .

استقبلنا نبأ رحيل صداحة الشعر العربي الفصيح ـ الكبير محمود درويش ـ بقلوب يملأها الحزن وتغشاها ضبابة القتامــــــــــــة ، ولا نملك إزاء هذا المصاب الجلل ، إلا أن نترحم على ثراه ، وننزل بعض العبارات ، ونقول قولتنا المعهودة : إن لله وإن إليه لراجعون .

فمن بعد درويش للقضية الفلسطينية ، ومن بعده يصدح بشعر المقاومة ، ويتغنى بترابها البكر ، ومن بعده يشتاق إلى حليب أمه يأتيه من أحضان فلسطين ، وإلى دمعات أمه تبكيه في كربه ومصابه ، وإلى صرخات محمد وهو يُسمعها الدنى ويوصلها إلى كل المجامع ، وإلى و إلى ....

أحن إلى خبز أمي ..

وقهوة أمي

ولمسة أمي

وتكبر في الطفولة

يوما على صدر يوم

وأعشق عمري ،لأني

إذا مت ..

أخجل من

دمع أمي ..

● نم قرير العين يا شاعرنا الكبير ، وأهنأ في مرقدك الأبدي ، فلقد صدحت بلابلك كلها ، وأسمعت الدنى ، وأخرست الغربان ، فلا شعـــر يعلو فوق شعر القضية ، ولا أدب يسمو فوق أدب القضية .

حملنا عنك هم البوح ، وانتقلنا في الأجواء البعيدة ،لنطأ أرض الكرامات ، وأرض النبوات وأرض المعجزات ، ولنحيي هما أنت صاحبه لنقول :

· فلسطين يا مسرى نبينا ، ويا قِبلتنا الأولى ، ويا أرضنا البِكر العَذري ، التي دنَّستها الخنازير ، و يا ثــَـــرىً كل ما فيكَ بركة ، فالأنبياء جميعا ساروا في أنحائك ، والرسالاتُ معظمها لم تجد غير بطحائك ، فيكِ عاش المسيحُ ومنكِ رفع ، منكِ هاجَر يوسفُ وليدا وصار بحمد الله نبيا رسولا ، كان لإبراهيمَ الخليل في ثراكِ سلوىً ، منكِ رُفع الحبيبُ محمد إلى السماوات العــُــــــــــــــــــــلى ، شبَّ في أرضك عيسى وموسى وهارون و يحي وزكريا و اليسع وذو الكفل ومريم الطاهرة البتول .

عندما نقرأ تاريـــــــخـــــــــَك الغابر نحس إحساس الرغبة الصادقة ، بأننا نَتُوق فعلا إلى معانقتك ، فأطرافنا وحواسنا وأحاسيسنا جميعا مُوزعة بين أنحائك ، وفي كل فِجاَجِك ، فالخليل ويافا وعكا ونابلس وطول كرم ، ورام الله ، وجبل الزيتون ، وجِنين وحَيفا والناصرة ، تحمل جميعا عبق الماضي ، ولاشك أنها كانت يوما مَا ممرا و مَعبر أو محطاً لركب الرسالات المتعاقبة ...

ولكننا نحترق الُحرقة القاتلة ، ونحن نرى كل إرثنا ومجدنا مسلوب ، ونرى بأمي أعيننا مخازي أل صهيون ، و نكسات أمتنا وطعنات بعضنا للبعض ، ولا نملك إلا أن نقول : إن لله وإن إليه لراجعون .

ولكن الأمل في التحرير ، سيظل باق وقائم ،ما بقيت الدماء تسري في عروقنا ، وما بقيت الحياة تَدُب في أجسادنا ، حتى نُـــــــــــطهر كامل الأرض من براثن العتاة ، البغاة ، الحفاة ، العراة ، آل صهيون ، وركب الجبارين المتعاقبين على سنن إذلال الشعوب وقهرهم ، وإبدال ضحكاتهم بحشرجة الاحتضار وعويل الهاوية ، فقد ألينا على أنفسنا أن نُـــــــــــــحَـــمِّلَ هذا الهَمَّ الكبير والكابوس المُقلق ، إلى الأتقياء الأنقياء الأطهار الُمتوضئين لكل صلاة ، الذين باعوا أنفسهم لله ، ولم تُغريهم الدنيا ولا زُخرُفُهاَ ، فالذين يعشقون الدنيا ، يتوجسون خيفة وهم ُيلقون بذواتهم في هذه المَطبات ، على خِلاف أهل الآخرة ، فقد رخَّــــــسُوا كل الدنيا ، لأنهم يُدركُون بأن الذي عند الله أفضل ، وأحسن ، وأجمل ، و أبهى ، من كل نَضَار دُنْيوي فانٍ ، فلنتحسس معًا هذا الجيل الرباني ونحن نقرأ مقاطع هذا الشِعر المُعَبر ، الكاشف للجرح العميق ، الذي يؤلمنا جميعا ، علَّ الصرخات والوخز المُباشر يحرك في ذواتنا هـــمًّا يُؤَرٍقُ مضاجعنا ، فنقوم إذَّاك قَومَـــــــــــــــــــــة رجل واحد ، نُغيِر معالم الخارطة ، ونقضي على الذُل والصَغار التي ألَّمت بنا .

بــَــــــــــــهروا الدنيا ...

وما في يدهم إلا الحجارة ..

وأضاءوا كالقناديل ، وجاءوا كالبِشارة .

قاوموا ..وانفجروا ..واستشهدوا ..

وبقينا دِببا قُطبية .

صُفِّحت أجسادها ضد الحرارة ..

قاتلوا عنا إلى أن قُـــــــتِلوا ..

وجلسنا في مقاهينا .. كَــــبــُصَاق المحارة ..

واحد يبحث منا عن تجارة .

واحد ..يطلب زواجا رابعا ..

واحد .. يبحث في لندن عن قصر مَنيف .

واحد .. يعمل سمسار سلاح ..

واحد .. يبحث عن عرشٍ وجيشٍ وإمارة .

آه .. يا جيل الخيانــــــــــــــــــات.

ويا جيل العمـــــــــــولات ..

ويا جيل النـــــــــــــــــفايات

سوفَ يجتاحكَ ــ مهما أبطأ التاريخ ــ

أطفالَ الحجارة ...

ــ نتمنى لفلسطين الجريــــــــــــــــحة كل الخير ، وكل العافية ، حتى تلملم ذاتها وتعود كريمة مصانة ومقدسة كما كانت ، ونتوق أن يتوجه سلاح المقاومة إلى العدو لا إلى الشقيق ، وأن تمحى وتزال كل الشحناء والبغضاء التي تخدم الغاصب وتبقيه السيد ذو المنعة على الدوام ، بينما نتآكل ونـــــــــــخر ونسقط كحبات العقد، فماذا نستفيد إن تقاتلنا ، حتى وإن كان بعضنا على خطا؟ .

فلاشك أن المستفيد الأول والأخير من ذلك هو الصهيوني الغاشم ، فلا ندعه ينعم بالراحة ، ولا نبقيه على حال الأمن والأمان مادمنا مسلمين ونشهــــــــــــــــــــد بالوحدانية لله تعالى في الأرض والسماء ...