خواطــــر رمضانية ( 3 ) .

ـ يمتاز رمضان بصلاة القيام أو ما يعرف عند العامة عندنا " بالتراويح " ، و تكاد هذه الصلاة تستقطب شرائح الناس المختلفة ، ولعل في نزوع بعض الناس إليها ، مرده التباهي والفخر ومواكبة صنيع المتمرسين و المواظبين على الطاعات في رمضان وفي غير رمضان من عباد الله القائمين .. ولكنه وفي عرف أصحابنا الجدد جرى تقليدا يتحاكونه في مجالسهم من باب استحسان الفعـــــــل طالما وأنه فعل حســـــــن ، ربما لأنهـــــم حديثي عهد بالطاعات ، وبذلك بات هذا التقليد الجديد في حياتهم مثار استحسان محمود .. ولكن هل تراه يـــــــدوم ؟
ـ لصلاة القيام في رمضان نكهة خاصة كما قدمنا ، تضاهي بل تفوق نكهة استحسان بعض الأكلات والأطباق الشهية ، ونكهة بعض الحلويات الشرقية عندنا مثلا والتي يتهافت الناس عليها تهافتا كبيرا ، ونشهد على محلاتها طوابير طويلة وتدافع ملحوظ و قد ـ يتقاتل ـ الناس عليها قبيل الإفطار بدقائق للظفر بحبات " الزلابية " أو " القريوش " أو حتى " صباع العروس " .
ويكاد كل رمضان يتعلق بهذه الصلاة السننية .
لقد شببنا على هذه الطاعة ، وانغرست فينا مذ كنا صغار ، ولعل في خاطر كل واحد منا بعضا من ثمار هذه الصلاة يستجليها كل حين .
فأذكر أني ولجت هذا العالم الجميل المليء بالطهر وأنا بعد صغير ، كنت ارتاد مسجد المدينة العتيق الذي شرفت كل المدينة به ، لأنــــــه يمثل روح المدينة وقلبها النابض ، ولأن شيخ العلماء وأديبها الأول " الإبراهيمي " قد زار المكان وأشرف على تدشينه في أربعينيات القرن التاسع عشــــــر ، ولقد حز في النفس كثيرا كثيرا قرار هدمه الذي لم يراعي هذا التعلق للأهل بالمكان ، ولم يستشعر حميمية التواصل الروحي بين سكان المدينة والمسجــــــد .. وهذا تجني كبير في حق سكان المدينة .
كنت وأنا الصغير أصلي مع الكبار صلاة القيام ، وأذكر تلك المقاطع من الدعوات بين كل ركعتين ، ولكني في حينها لم أعي جيدا ما يقولونه ، أحفظه عن غير وعي ، ولربما أحفظه حفظا فيه لحــــــن . فكانوا يرددون كلمات على منوال : " سبوح قدوس رب الملائكة والـــــــروح " ، ولعل في قراءة الإمام مع المأمومين للكلمات ما جعلها أكثر تعقيدا حينها ، وما جعل صلاة التراويح تبدو أكثر غموضا وإبهاما ، فقد كان الإمام يتعمد السرعة المفرطة في القراءة حتى وكأنه في سباق مع الزمن ، ونقف نحن مشدوهين لا نُحصل من قراءته إلا خواتم الكلمات أو الآيات ، ونظل نرقب في وقفتنا تلك متى يقول " الله أكبر " لنركع ، لأننا وبكل بساطة لم نأخذ من وقفتنا في محراب العبودية لله سوى الوقوف ، طالما وأن صلاتنا تفتقد إلى الخشوع ، ونحمد الله حين يُسلم الإمام ليعلن إنهاء الصلاة أو حين يقول صلاة الشفع والوتر ، لأننا ندرك بأنه سيقرأ فيهما قصار الصور ، وبذلك سيركع سريعا .
في مسجدنا الجديد أخذ المنحى التعبدي منعرجا جديدا ، فقد انبرى إلى ساحة إمامة الناس شباب يمتلكون ثقافة شرعية ، ولهم في علم التجويد والترتيل بعض الفضل ، وبذلك أخذنا نفقه بعض الشيء مايقوله الإمام ، ولربما استشعرنا أيي الذكر الحكيم ، ولكنه فهم قاصر يحتاج إلى كثير تمحيص ، طالما وأن المرحلة العمرية التي كنا فيها لا تزال مبكرة على الولوج إلى عوالم الفهم الحصيف لمدركات ما نرى وما نسمع ، ولكنها مرحلة ثريـــــة .. فلا نفرغ من صلاة القيام الأولى ( التراويـــــــح ) حتى نجد أنفسنا في صلاة القيام الثانيــــــــــــــة ( قيام الليل ) بعد قرابة الساعتين ونيف من الزمن ، وفيها وقفات للذكر والتذاكر الجميل ، ولعل من حسناتها أن زرعت فعل الخير في ذواتنا ، وأصبحنا نعي قيمتنا الاجتماعية والدينية ونحن بعد صغار ...
ـ سار بنا قطار الزمــــــن و أصبحنا كما نرى ـ كبار ـ صقلتنا التجربة وأمدتنا الحياة بالكثير من أشيائها الجميلة ولربما غير الجميلة ، و أصبحنا نتعامل مع الطاعات بمنطق الكبار أيضا ، نسهو ، تأخذنا الغفلة لبعض الوقت ، وقد نزيغ لبعض الوقت أيضا ، ولربما في روعنا أشياء وأشياء تحرك خوالجنا ونحن في محراب العبودية لله تعالى .
المسجد صار أنيقا وجميلا ، وقد عمد محسنوا المدينة إلى جعله كذلك بصدقاتهم التي لا تتوقف ، حتى أن إمام المسجد لا يمل من ذكر القائمة الطويلة للمحسنين والمحسنات كل جمعــــــة .. فبصدقات محسنينا ـ أدام الله عزهم وخيرهم ـ أصبح مسجدنا مكيفا تكييفا عصريا ، وله من الفرش الوثيرة الجذابة ما غطى كل البساط ، وما أدخل الراحة في القلوب .. ولكن ماذا عن صلاة القيام في ضل ما نرى من أجواء منعشة .
ـ بدأنا القيام مع أول ليلة لهذا الشهر الفضيل في هذا المسجد " المُكيف " غير أن تكييفه لم يكن ساري المفعول ، لأن التكييف حديث ، ويحتاج إلى تقنيين بارعين حتى يشغلوا المكيفات الكبيرة ، وكان كل ذلك على عاتق المصلين ـ الأعزاء ـ وعلى حساب راحتهم التعبدية فالحـــر شديد ، والعرق يتصبب من الجميع وكأننا في يوم حشر ـ اعلم بأن عرق يوم الحشر لا يضاهيه عرق ـ ، تمكنوا فيما تلى الأيام الأولى من تشغيل بعضها ، غير أن الضغط داخـــــل المسجد موجود ـ موجود ـ ، وقد يصبر المصلي على كل ذلك طالما وأنه في عبادة ، والعبادة تقتضية الجَــــلد والتحمل .. ولكن ماذا لو كان الإمام يلحـــــــن كثيرا في القرآن ولا يملك القراءة الجيدة ، التي تجعل منك خاشعا للصلاة .
فما نفع الفرش الوثيــــــرة والتكييفات الحديثة ، إذا كنا نلــــحن في القرآن ، ولا نجعل عباد الله يخشعون في صلاتهم .

تقبلوا منا كل التحية ، وصح فطوركم .
ـ انتظرونا في الخاطــــر الرابع .