مـــــــــــــــــــــواعظ
من فضل الله على عباده تتابع مواسم الخيرات ومضاعفة الحسنات فالمؤمن يتقلب في ساعات عمره بين أنواع العبادات والقربات فلا يمضي من عمره ساعة إلا ولله فيها وظيفة من وظائف الطاعات وما أن يفرغ من عبادة إلا ويشرع في عبادة أخرى ولم يجعل الله حدا لطاعة العبد إلا انتهاء عمره وانقضاء أجله.
وبعد ان اتم الله لنا نعمة اكمال شهر الصيام والقيام ورتب عليه عظيم الأجر والثواب صيام ست أيام من شوال التي ثبت في فضائلها العديد من الأحاديث منها ما رواه الإمام مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال : ( من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر
المواضيع الأخيرة
بطاقات اسلامية
أدعية رمضانــــــــــية
نحو نظريّة عربيّة للإحالة الضّميريّة ¬ دراسة تأصيليّة تداوليّة
صفحة 1 من اصل 1
نحو نظريّة عربيّة للإحالة الضّميريّة ¬ دراسة تأصيليّة تداوليّة
نحو نظريــــة عربية للإحالــــة الضميرية ( دراســــة تأصيلية تداولية ) .
الأستاذ: نزار ميلـــــود .
أوّلاً : تمهيــد.
لقد التفت العرب القدامى إلى ظاهرة الإحالة )العائدية( الضّميريّة وصنّفوا الضّمائر إلى متّصلة ومنفصلة ومستترة وظاهرة وإشاريّة وموصولة..إلخ .
كما اهتمّ اللِّسانيُّون المُحدَثُون من العرب والأعاجم بالظّاهرة الآنفة الذكر، وقاربوها من زاويا مختلفة: تركيبية أو دلاليّة أو هما معا فصنّفوا الإحالة الضّميريّة إلى قسمين ، وكلّ صنف يستدعي منهجا مخصوصا عندما بيّنوا أنّ الإحالة الضّميريّة تختلف باختلاف طبيعة مفسِّر الضّمير ؛ إذ إنّ الإحالة تكون لغويَّة )نصّيّة( إذا كان مفسِّر الضمير مذكورا داخل النص ، أما إذا كان خارجه فتغدو الإحالة تداوليَّة .
لقد انحصر اهتمام التّداوليّات في الإحالة المقاميّة)العائديّةالحرّة( حين يكون مفسِّر الضّمير غير مذكور في السّياق اللّغويّ فنتوسّل لتعيِّينه بإجراءات تداوليّة ( )عبر الوسيط المقاميّ ومتغيِّراته.
إنّ الجهاز الوصفيّ لنحو الجملة لا يقوى على رصد الإحالة الضميريّة وضبطها حيث العلاقة بين الضّمير ومفسِّره على مسافة بعيدة ، وهو ما أهاب بلسانيّي الجملة إلى عدم الاهتمام بالظاهرة حرصا على تناغم طروحاتهم النظريّة مادام مجال الإحالة بشتى تجليّاتها هو الخطاب لا الجملة .
وبناء على ذلك ينبغي أن توصف الإحالة وتفسَّر في إطار أوسع يكبر الجملة لاسيّما أنّها تسهر على اطّراد بعض الوحدات المعجميّة والعناصر الإشاريّة وتواصلها المستمرّ داخل النص أو الخطاب كتكرارها لفظا أو دلالة أو هما معا أو استبدالها بعضها ببعض يحلّ محلّها ويضطلع بوظيفتها أو حذف وحدة لسانيّة استنادا إلى الخلفيّة المعرفيّة المشتركة بين المخاطِب والمخاطَب .
ثانيًّا: مفهوم الإحالة:
أ) لغـةً:
جاء في لسان العرب : « المُحَال من الكلام : ما عدل به عن وجهه ، وحوّله جعله محالا ، وأحَال أتى بمُحَال ، ورجل مِحوَالٌ : كثير محال الكلام...ويقال أحلت الكلام أحيله إحالة إذا أفسدته . وروى ابن شميل عن الخليل بن أحمد أنّه قال : المحال الكلام لغير شيء...والحِوَالُ : كلّ شيء حال بين اثنين ...حال الرّجل يحول تحوّل من موضع إلى موضع . الجوهريّ : حال إلى مكان آخر أي تحوّل ... «( ).
إنّ كلمة " أحال " تستعمل لازمة ومتعدّيّة ؛ وإذا تعدّت فإنّها تعني نقل الشّيء من حال إلى حال أخرى وتعني توجيه شيء أو شخص على شيء أو شخص آخر لجامع يجمع بينهما ، كما تجوز الدّلالة بها على المعنى الاصطلاحيّ الّذي يحيل فيه العنصر الإحاليّ على عنصر إشاريّ يفسّره ويحدّد دلالته .
ب) اصطلاحًا:
بادئ ذي بدء نشير إلى أنّ مفهوم " الإحالة " الّذي نرتضيه ونرمي إليه من خلال بحثنا ليس ذلك المفهوم الفلسفي التّقليدي الّذي هو«العلاقة القائمة بين الأسماء والمسميات«( )، بل نقصد من وراء إطلاق مصطلح " الإحالة " المفهوم النّصيّ الّذي يتردّد على ألسنة علماء النّص ؛ إذ « يثير مفهوم الإحالة ونعني مقابلها في اللّغات الغربيّة كالفرنسيّة référence مثلا مشكلا اصطلاحيّا ، إذ هي تعني تارة العمليّة الّتي بمقتضاها تحيل اللّفظة المستعملة على الشّيء الموجود في العالم أي ما كان يسمّيه القدامى "الخارج" وهي تعني تارة أخرى إحالة اللّفظة على لفظة متقدّمة عليها«( ).
إنّ مصطلح "الإحالة" في البحث اللّسانيّ يشير إلى مفهومين مختلفين :
أوّلهما تقليديّ: وهو ما كانت اللّسانيّات التّقليديّة لا سيّما البنيويّة لا تعتبره من صميم الدّراسة اللّسانيّة العلميّة الحقّة ؛ فكانت تعتبر المرجعيّة "la référence" « مجالا ينبغي إبعاده من الدّراسة اللّسانيّة بالرّغم من الأهميّة الّتي يكتسيها في فهم الخطاب البشريّ«( ).
وثانيهما: هو إحالة العناصر اللّغويّة إلى بعضها البعض داخل نصّ من النّصوص لتشكّل عالما نصيّا ، فـ « الإحالة هي العلاقة بين العبارات objects والأحداث events والمواقف situations في العالم الّذي يدلّ عليه بالعبارات ذات الطّابع البدائليّ alternative في نصّ ما ؛ إذ تشير إلى شيء ينتمي إلى نفس عالم النّص«( ) الّذي يشمل كلّ السّياقات والأحداث والوظائف التداوليّة لكلّ عنصر من عناصر النّص على اعتبار أنّه بديل لما هو موجود في الخارج .
ويذهب سعيد بحيري إلى أنّ « الإحالة هي العلاقة القائمة بين عنصر لغويّ يطلق عليه "عنصر علاقة" وضمائر يطلق عليها "صيغ الإحالة" وتقوم المكوّنات الاسميّة بوظيفة عناصر العلاقة أو المفسِّر أو العائد إليه«( ) ؛ فالإحالة كما هو واضح من تحديد سعيد بحيري هي العلاقة بين عنصرين أحدهما إشاريّ و الثّاني إحاليّ حيث يقوم العنصر الإشاريّ بدور التّفسير والتّبيّين لدلالة العنصر الإحاليّ الّذي يعود عليه ؛ وتلك العائديّة ضميريّة كانت أو إشاريّة أو تكراريّة تسهم في تماسك النّص وترابط أجزائه المتباعدة في فضائه ، وبذلك تعدّ الإشارات اللّغويّة الّتي تتصدّر النّص ذات قيمة كبيرة في صياغة موضوع الإحالة تتركّز فيها عناصر النّص الدّلاليّة ، وتعدّ منه بمنزلة التّفسير ، والإحالة هي إحالة عنصر على عنصر متقدِّم أو مستهَلٍّ به أو ما يمكن تسميّته بـ "العنصر الإشاريّ" ؛ وبذلك تكون الإحالة عوداً على بدء وربطاً للآخر بالأوّل ، وفي هذا الرّبط يتحقّق الانسجام والتّرابط أو ما يدعى بـ "التّماسك النّصي" حيث « ندرك تحت التّضافر الاسميّ مجموع الإحالات بين الأسماء بكلّ ما في الكلمة من معنى هي ظواهر نصيّة داخليّة . ومن ثمّ فهي انعكاسات نصيّة لأفعال التّعلّق الدّاخليّ بما هو خارجيّ«( ).
إنّ البنيّة الإحاليّة في أيّ نصّ مُنجَز تتّصل بمستواه الدّلاليّ اتّصالا وثيقا لأنّها تفتح المجال للقراءة والتّأويل في إطار سياق أو مرجعيّة تتحكم في التّأويل وتحديد المعنى المقصود من بين المعاني المحتملة ؛ فقد تكون بنية العقائد بنية إحاليّة تشكّل قاعدة ثقافيّة واجتماعيّة ومرجعا يستعين به النّاقد والقارئ للفهم والتّأويل على اعتبار أنّ النّص الأدبيّ ينفعل بكلّ ما يحيط به من أحداث وظواهر ويعجّ بمشاعر ومبادئ ثقافيّة ودينيّة ... وتؤسّس هذه الجوانب الخارجيّة بنية مرجعيّة إحاليّة لا غنى للنّاقد من الرّجوع إليها والإحالة عليها لتمام الفهم ، وبذلك تكون البنية الإحاليّة مفهوما يعكس الخلفيّة الّتي ينبغي الرّجوع إليها لوضع النّص في إطاره العامّ ، ويجنّب النّاقد أو القارئ كلّ قراءة جزئيّة تُخرِج النّص عن إطاره وسياقه الّذي ولد فيه .
ويذكر أحمد عفيفي تعريفا أكثر شمولا للإحالة فهي « ليست شيئا يقوم به تعبير ما، ولكنّها شيء يمكن أن يحيل عليه شخص ما باستعماله تعبيرا معيّنا«( ) ؛ فمادام للباثّ )المتكلّم أو الكاتب( الحقّ في بناء الإحالة حسبما يريد فشرط انبنائها هو النّص من خـلال عناصر إحاليّة تقوم على مبدإ التّماثل بين ما سبق ذكره في مقام آخر وبين ما هو قائم لأنّ الأسماء عموما تعيد أو تستحضر في أذهاننا مسمياتها بوجوب علاقة دلاليّة تخضع لقيد التّطابق بين الخصائص الدّلاليّة بين العنصرين المحيل والمحال عليه ؛ وبذلك تعدّ الإحالة ضامنة لانسجام مكوّنات أجزاء النّص بربط مفاهيمه وجمله وفقراته«( ).
ولا مناصّ من الإشارة في هذا السّياق إلى أنّ الأزهر الزّنّاد يعرّف الإحالة بقوله : « الأصل في الإحالة أن يجري تعيّين المرجع أو المفسِّر ثمّ تجري الإحالة عليه بعد ذلك ، إحالة اللاّحق على السّابق«( ) ، ورغم هذا فإنّ القلب في اتّجاه الإحالة لا يمنع انسجام النّص؛ فالبنية الإحاليّة في النّص تتميّز عن البنية التّركيبيّة لأنّها تعمل في الاتّجاهين دون ضير بالمعنى ؛ فقد يأتي العنصر الإشاريّ أو المفسِّر المعيَّن بعد العنصر الإحاليّ ولاحقا عليه نحو ضمير الشّأن في العربيّة حيث يكمن عنصر الانسجام الّذي توفّره الإحالة في كونها تتطلّب من القارئ البحث عن أواصر العنصر الإشاريّ الغائب الحاضر في النّص فتكوِّن بذلك عُقَدًا أسلوبيّة تقوّي خيط الخطاب لأنّها تتخلّى عن جاهزيّة المعنى وما فيه من إهدار للطّاقة المعنويّة المُكثَّفَة و المُختَزَلَة في العنصر الإحاليّ .
وبناء على ذلك اعتبر محمد خطّابي « الإحالة علاقة دلاليّة ، ومن ثمّ لا تخضع لقيود نحويّة إلاّ أنّها تخضع لقيد دلاليّ وهو وجوب تطابق الخصائص الدّلاليّة بين العنصر المحيل والعنصر المحال إليه«( ) فعنصر الانسجام يتولّد من خلال تطابق الخصائص الدّلاليّة بين العناصر الإحاليّة والعناصر الإشاريّة ، وهذا التّطابق من شأنه أن يتحقّق عبر التّعالق النّاجم عن تتابع العناصر في النّص ، وعلى القارئ أن يفترض أنّ هناك ثيمةً أو بؤرةً أمًّا وبنى صغرى متفرّعة عنها تتوالد عبرها إحالات إلى نهاية النّص وعنصر الانسجام يتجلّى في الكشف عن تعالق تلك العناصر بعضها ببعض ؛ أي الكشف عن مكمن التّرابط بينها ؛ فالرّبط الإحاليّ هو « الّذي يمدّ جسور الاتّصال بين الأجزاء المتباعدة في النّص ، إذ تقوم شبكةٌ من العلاقات الإحاليّة بين العناصر المتباعدة في فضاء النّص ، فتجتمع في كلّ واحد )من تلك الأجزاء( عناصره متناغمة«( ) .
إذا لا بدّ من ارتباط دلاليّ ما يَلُمُّ شتات تقطيع خيط الخطاب ليستحوذ على شرعيّته، ويتوفّر على الانسجام والنّصيّة من خلال انتقال التّواشج الجمليّ إلى الصّعيد الأرحب عبر عمليّة متبادلة بين العناصر اللّسانيّة المشكِّلة للخطاب ، فلا مناصّ من إدراك أنّ البنى النّصيّة في تشكّلها وصيرورتها رهينة بتواشج مع جاراتها في سياق معيّن ؛ فبدلا أن يتشظّى الخطاب بين بنى متفرّقة قددا يصبح جملة انسيابيّة واحدة ، تشكّلها أجزاء متناغمة فيما بينها؛ فـ « الإحالة تقوم بدور بارز في إنشاء التّماسك الدّلاليّ للنّصّ ؛ إذ إنّ شيوع ورود صيغ الإحالة الممكن تحديدها في كلّ نصّ تبرز أنّ الإحالة تشغل ضمن العناصر المؤثّرة في تماسك النّص مكانا بارزا ، ويكون بحثها من خلال نحو النّص لتقديم القواعد الّتي يجب أن تفي بقيود ما يسمّى بالنّصيّة " textualité " «( )، كما أنّها « أداة كثيرة الشّيوع والتّداول في الرّبط بين الجمل والعبارات الّتي تتألّف منها النّصوص«( ) ، وبالتّالي فـ « الإحالة من العناصر المؤثّرة في تماسك النّص«( ) وتحقيق انسجامه.
ثالثًا: أنواع الإحالة.
نرى من الضّروري قبل الحديث عن أنواع الإحالة أن نشير إلى أنّ اللّغة تشتمل على نوعين من العناصر يمثّلان قطبي الإحالة وهما : العنصر الإشاريّ والعنصر الإحالي ؛ ففي سياق الحديث عن طبيعة الرّوابط الإحاليّة في النّصوص لا بد من التعريف بهما فيما يلي بإيجاز :
أ ( - العنصر الإشاريّ :
يعرّفه الأزهر الزّنّاد بأنّه « كلّ مكوّن لا يحتاج في فهمه إلى مكوّن آخر يفسّره«( ) فقد يكون لفظا دالاّ على حدث أو ذات كإحالة ضمير المتكلّم (أنا) على ذات صاحبه ، وحينئذٍ يرتبط العنصر الإحاليّ بعنصرٍ إشاريٍّ غير لغويٍّ ممثَّلاً بذات المتكلّم ، أو موقع ما في الزّمان نحو :
بعد أسبوع ، أمس ، غدًا ، الآن ، الأسبوع الماضي ، يوم الجمعة ، السّنة المقبلة ، منذ شهر..الخ ؛ فهذه العناصر الإشاريّة تحدّد زمنًا بعينه بالقياس إلى زمان التّكلّم أو مركز الإشارة الزّمانيّة ( ).
أو المكان نحو :
- ظروف المكان (هنا ، هناك ، فوق ، تحت..الخ) وأسماء الأماكن.. نحو قول القائل :
- أريد أن أعمل هنا .
فهل القائل يعني : في هذا المكتب ، أو في هذه المؤسّسة ، أو في هذا المبنى ، أو في هذا الجزء من المدينة ، أو في هذه الدّولة ، أو غير هذه جميعا ؛ فكلمة "هنا" عنصر إشاريّ لا يمكن تفسيره إلاّ بمعرفة المكان الّذي يقصد المتكلّم الإشارة إليه واتّجاهه انطلاقا من مركز الإشارة المكانيّة ( ).
كما قد يكون جزءا من ملفوظ أو ملفوظات بأكملها جرى التّعبير عليها ثمّ تعاد الإشارة إليها باختزالها في عنصر إحاليّ يعوّضها ، ويتّضح ذلك من خلال تأمّل هذين المثالين فيما يلي :
- من الجزائر نقدّم إليكم نشرة الظّهيرة للأنباء ، وهذا موجزها...
- صرّح ناطق باسم وزارة الخارجيّة فقال ما يلي :...
يتكشّف لنا من خلال المثال الأوّل إحالة ضمير الإشارة (هذا) إحالة بعديّة إلى عنصر إشاريٍّ نصّيٍّ يُفسِّره حيث يتمثّل في الكلام الّذي يليه وهو موجز نشرة الظّهيرة ؛ فالعنصر الإشاريُّ هنا جزء من الملفوظ أو قد يكون هو الملفوظ بأكمله ، وهذا ما ينسحب على المثال الثّاني .
وقد يكون عبارة عن مفاهيم جرى التّعبير عليها في صورة أسماء مفردة أو مركبات اسميّة تُذكَر صراحة أوّل مرّة في النّص ( ) ، وبالتّالي فالعنصر الإشاريّ يُشار إليه إشارة أوّليّة بحيث لا يرتبط بإشارة أخرى سابقة أو لاحقة لأنّه مؤشّر (index) لذاته ، وفهمه ليس مبنيّا على غيره من العناصر اللّسانيّة بسبب ارتباطه بالحقل الإشاريّ (deictic field) ارتباطا مباشرا دون توسّط أيّة عناصر إحاليّة أخرى لأنّها تكوّن العناصر الأساسيّة الدّنيا في عالم أيّ خطاب ( ) ؛ ولذلك فهي ضروريّة الورود لتُجِيز وجود العناصر الإحاليّة .
وبناء على ذلك يذكر الأزهر الزّنّاد أنّه بمجرّد أن يتلفّظ الإنسان يصبح ذلك الملفوظ « ملكا له ، فتنحصر الأبعاد الجماعيّة في اللّغة كي تحلّ محلّها الأبعاد الفرديّة المقترنة بالآن والهنا والأنا والأنت...وقرائنها هي العناصر الإشاريّة...وهذه القرائن شرط في فهم الملفوظ وإعطائه معنى لأنّها ترتبط بالمقام«( ) ؛ فتلك العناصر اللّسانيّة المُحِيلة إلى الذّوات أو الأزمنة أو الأمكنة أو أجزاء من ملفوظات أو ملفوظات برمّتها لا يمكن معرفة ما تدلّ عليه لأنّها أشكال لسانيّة فارغة في المعجم ، فينبغي تفسيرها في ضوء ارتباطها بالمقام أو الحقل الإشاريّ لمعرفة قرائنها الّتي تحدّد معانيها وتعيّن دلالاتها .
ويذكر شاهر الحسن في السياق ذاته قائلا : « إنّ المؤشّرات اللّغويّة الضّمائر ، أسماء الإشارة ، والظّروف الزّمانيّة والمكانيّة ...تتحدّد مدلولاتها الدّقيقة في ضوء عناصر المقام والعبارة الّتي ترد فيها هذه المؤشّرات«( ) .
ومن الجدير بالذّكر الإشارة إلى أنّ هناك نوعين من العناصر الإشاريّة وتتمثّل في :
العناصر الإشاريّة المعجميّة : وتتمثّل في الوحدات المعجميّة المفردة الّتي يُحال عليها .
العناصر الإشاريّة النّصيّة : وهي عبارة عن مقطع أو جزء من ملفوظ أو ملفوظ كامل يُحال عليه نحو قوله تعالى:
هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ، يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( ).
نلاحظ احتواء هذه الآية على عناصر إشاريّة معجميّة وعنصر إشاريّ نصّيّ واحد فقط ، وتتمثّل الأولى في( السّماء ، شراب ، شجر ، الزّرع ، الزّيتون ، النّخيل ، الأعناب ، الثّمرات ) ، بينما يتمثّل الثّاني في الملفوظ السّابق على العنصر الإحالي وهو ضمير الإشارة (ذلك) حيث ورد هذا الأخير اختزالاً للكلام واقتصادًا للجهد واجتنابًا للتّكرار حين أحال إلى ملفوظ يحتوي عناصر إشاريّة معجميّة ومجموعة أحداثٍ تلتقي كلّها في نتيجة ينبني عليها الحدث أو المعنى الّذي يحيل عليه العنصر الإحاليّ الجامع لكلّ ما تقدّم عليه ، ونمثّل لذلك بالشّكل التّالي : (الشّكل رقم01)
عناصر إشاريّة معجميّة عنصرإحاليّ حدث/معنى
(السّماء ، شراب ، شجر ، الزّرع ، الزّيتون (ضمير الإشارة) (جامع)
النّخيل ، الأعناب ، الثّمرات)
أحداث (أنزل ، يُنبت ، تسيمون)
عنصر إشاريّ نصّيّ (ذلك) (آية)
إحالة داخليّة قبليّة إحالة داخليّة بعديّة
وللقارئ أن يُلاحظ كثافة العناصر الإشاريّة المعجميّة من خلال الشّكل مقابل عنصر إشاريّ نصيّ واحد فقط ، و في هذا السّياق يذكر سعيد بحيري أنّ العنصر الإشاريّ النّصيّ « يتميّز عن الأوّل في طبيعة تكوينه والهدف منه ؛ أي أنّ العناصر الإشاريّة النصيّة هي مقاطع من الملفوظ قد تطول وقد تقصر ، وقد تمثّل جزءا من مقاطع تجري الإحالة عليها للاختصار واجتناب التّكرار ، وتتميّز هذه العناصر الإشاريّة النّصيّة عن العناصر الإشاريّة المعجميّة بكونها أقلّ انتشارًا«( ).
ب ( العنصر الإحاليّ:
يعرّفه الأزهر الزّنّاد بقوله : « العنصر الإحالي هو كلّ مكوّن يُحتاج في فهمه إلى مكوّن آخر يفسّره«( ) ؛ وبذلك تكون العناصر الإحاليّة فارغة دلاليّا ممّا يجعل تفسيرها رهين ربطها بالعناصر الإشاريّة الّتي تعوّضها ، ويذكر محمد خطّابي بأنّ « العناصر المحيلة كيفما كان نوعها لا تكتفي بذاتها من حيث التّأويل إذ لا بدّ من العودة إلى ما تشير إليه من أجل تأويلها ، وتتوفّر كلّ لغة طبيعيّة على عناصر تملك خاصيّة الإحالة«( ) .
ولحاجة القارئ إلى مزيد من المعلومات والتّوضيح يذكر الأزهر الزّنّاد في مقام آخر أنّ « العنصر الإحاليّ كما تقرّر في الدّرس اللّغويّ مكوَّن يعوّض مكوَّنا آخر ذُكِر في موضع آخر سابق عادة ...فعوض أن يرد العنصر الإشاريّ في موضع الحاجة إليه بعد أن ورد أوّل مرّة يرد عنصر إحاليّ ينوب عنه ويؤدي معناه ويحمل جملة المقولات الّتي يحملها مفسِّره : الجنس العدد...هو صدى لغيره من المكوّنات إذ لا يُفهم إلاّ بالعودة إليها ، ثمّ هو يطابقها في عدد من السّمات التّركيبيّة والمقوليّة«( ) وللتّوضيح نورد المثال التّالي :
- أهدى لي أستاذٌ كتابًا ، هو مؤلِّفه .
فالاسم النّكرة (أستاذ) الّذي يرد أوّل مرّة في النّصّ يُمثّل معلما إشاريًّا يحمل سمات مقوليّةً في ذاته ، وعند الحاجة إلى ذكره مرة أخرى يُعوَّض بمضمر وهو الضّمير المتّصل بلفظ (مؤلِّفه) في الجملة الثّانية شريطة أن يحمل هذا المعوِّض النّائب عن العنصر الإشاريّ سماته المقوليّة (الجنس ، العدد ، التّذكير ، التّأنيث ، الإفراد ، الجمع ، التّثنية...) ويضطلع بأداء وظيفته ودوره المعنويّ لأنّه يُفسَّر في ضوئه ، ويمكن ملاحظة السِّمات المقوليّة الجامعة بين العنصر الإشاريّ (أستاذ) والعنصر الإحاليّ (هو) فيما يلي :
- أستاذٌ (+عاقل ، +مذكّر ، +مفرد ، +كهل ، معرفة...) .
- هو (+عاقل ، +مذكّر ، +مفرد ، +كهل ، +معرفة...) .
ورغم الاختلاف الحاصل ما بين العنصر الإشاريّ (أستاذٌ) والعنصر الإحاليّ (هو) في التّنكير والتّعريف فلا يتّفق لنا أن نعيد كلمة (أستاذ) بلفظها النّكرة حيث يتعطّل الفهم وينصرف الذّهن إلى أنّ (أستاذٌ) الثّانية غير الأولى ؛ ولذلك جيء بالضّمير وهو معرفة فعوَّض اسمًا نكرة .
ففي « الإحالة يحكم العنصر الإشاريّ العناصر الإحاليّة المتعلّقة به كلّها«( ) دون أن تفرض على هذا التّحكّم الخطّية في الكلام اتّجاها معيّنا ؛ لأنّ العنصر الإحاليّ قد يشير إلى ما سبق ذكره أو إلى ما سيأتي لاحقا عليه بل إنّ مصطلح العنصر الإحاليّ يطلق على نوعين من العلامات«
1 العلامات الّتي ترجع إلى الوراء وتسمّى anaphoric reference
2 العلامات الّتي تتقدّم إلى الأمام وتسمّى cataphoric reference « ( )، نحو :
هذه هي القصّة الّتي قرأتـها .
فالهاء في (قرأتها) ترجع إلى كلمة (القصّة) السّابقة الذّكر وعوّضتها ، وأمّا العلامات الّتي تتقدّم نحو الأمام فتُعرف عند ملاحظة ضمير الإشارة من المثال التّالي :
اسمعوا هذا : عمر سيتزوّج . فـ(هذا) عنصرٌ إحاليُّ يُشير إلى لاحق (عمر سيتزوّج).
وهكذا ننتهي إلى القول بأنّ العنصر الإشاريّ قسيم العنصر الإحاليّ ورديفه الّذي يلازمه في أيّ نصّ ، ولا يكون للأخير قيمة في غياب الأوّل ؛ فالعنصر الإشاريّ هو المُحدِّد والمُبيِّن للعنصر الإحاليّ بحيث يزيل إبهامه؛ وبالتّالي فحضوره ضروريّ إمّا متقدّما أو متأخّرا حتّى تتمّ الإحالة إليه لأنّ الاضطراب يشيع ويختلّ النّص ويستغلق الفهم حين عود العنصر الإحاليّ على أكثر من عنصر إشاريّ واحد .
1 ( - الإحالة الخارجيّة ) exophoric reference (:
ترتبط الإحالة الخارجيّة بالمقام التّداوليّ المحيط بالنّص أو الملفوظ ؛ فالعناصر الإحاليّة نحو : الضّمائر ، والإشارات ، الموصولات ، ظروف الزّمان والمكان...إلخ يرتبط تفسيرها بالمقام الإشاريّ الخارجيّ ؛ وبالتّالي فلسياق الحال دور حاسم في تأويلها وتحديد دلالاتها وضبط معانيها لأنّها عناصر لسانيّة فارغة معجميّا ، ولا يكون لها من معنى إلاّ عند تموضعها في سياق تركيبيّ ، فحينئذ تُفسَّر في إطار بنية النّص أو في بنية السياق المقاميّ .
وبالتّالي فالإحالة الخارجيّة علاقة موجودةٌ بين نصٍّ أو بعض عناصره وبين السّياق الخارجيّ ؛ وهذا يُوجِّه إلى أنّ النّص يُفسَّر بإشارات ومعان قائمة بالخارج وتُعدّ هذه الإشارات منه بمنزلة الأسباب الّتي أوجدته ؛ لذا إذا فُهِمَت هذه الأسباب الخارجيّة زال إشكال الإبهام وحصل بالتّالي فهم دلالة النّص بواسطة هذه الإحالة الخارجيّة . ومن أمثلة هذه الإحالة ما نقف عليه عند قوله تعالى:
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ( ).
في هذا الجزء من السّورة الكريمة عنصرٌ إشاريٌّ محوريٌّ هو (المؤمنون) وردت بعده مجموعة من العناصر الإحاليّة ممثَّلة في الضّمائر: هم (المُتكرِّرة) وواو الجماعة (المُتكرِّرة) ثمّ يقع تجاوز الدّلالة عن هذه البنية بالإحالة إلى بنية أخرى بُنِيَ توجيه الإحالة فيها الإحالة إلى خارج النّص اللّغويّ ؛ هي الإحالة إلى ذات الله عزّ وجلّ.
فالمستوى الخارجيّ للإحالة يقوم على وجود ذات المخاطِب خارج النّص وتتوفَّر فيه إحالة على خارج اللّغة.
إنّ ارتباط العناصر الإحاليّة بالعناصر الإشاريّة يجعلها تفيد ولا تعني فهي غير ذات معنى خارج سياق ورودها ، فوظيفتها الدّلاليّة رهينة بتسيّيقها ؛ فإذا علقت بمفسّر مقاميّ تغدو عندئذ الإحالة خارجيّة ) exophoric reference ( تؤوّل عبرها العناصر الإحاليّة من منظور وسيط تداوليّ .
يذكر إبراهيم الفقي عن مصطلح ) الإحالة الخارجيّة exophoric reference ( أنّه يشير إلى « الأنماط اللّغويّة الّتي تشير إلى الموقف الخارجيّ عن اللّغة extralinguistic situation ، غير أنّ هذا الموقف يشارك الأقوال اللّغويّة. ومن أمثلة تلك الأنماط المشيرة إلى ماهو خارج النّصّ that , there , him،ومصطلح المرجعيّة الخارجيّة ، يقابل بمصطلح المرجعيّة الدّاخليّة endophoric reference «( ) ؛ فالوحدات اللّسانيّة لأيّ لغة طبيعيّة ليست مجرّد سلسلة من صنع الكلمات ، فهناك مكوّنات غير لغويّة تفرض نفسها دائما أثناء الإنجاز على مكوّنات لغويّة في كلّ بنية تواصليّة محكيّة كانت أم مكتوبة ؛ وبذلك يستلزم فهم الإحالة خارج بنية النّص اعتبار المميّزات غير اللّسانيّة في تحديد معناها وإدراك كنهها وفكّ شفرة قطبيها ) الإشاريّ والإحاليّ ( ، والوقوف « على معرفة سياق الحال أو الأحداث والمواقف الّتي تحيط بالنّص ، حتّى يمكن معرفة المحال إليه من بين الأشياء والملابسات المحيطة بالنّص «( ) .
إنّ النّاظر إلى الإحالة الخارجيّة ) exophoric reference ( وصفا وتفسيرا ، ينتهي إلى التّأكيد على الدّور الحاسم الّذي تؤدّيه المتغيّرات المقاميّة الّتي تكتنف البنية اللّسانيّة واستعمالاتها ؛ فالمعاني المعجميّة والصّرفيّة والتّركيبيّة ليست كلّ شيء في إدراك مقصديّة المتكلّم ؛ فثمّة عناصر غير لسانيّة ذات أهمّية كبرى في ضبط معنى بعض العناصر المرتبطة بالسّياق التّداوليّ أثناء توظيفها في سياق تواصليّ ؛ لأنّ الإشارة اللّسانيّة بموجب التّداوليّة كما يذكر فرنسواز أرمينكو « تعيش من خلال الاستعمال«( ) ، وبالتّالي تكون العناصر الإشاريّة المتعلّقة بالعنصر الإحاليّ هي « المعرفة المفترضة الّتي تسمح لنا بالإتيان بمعلومات إضافيّة تخصّه«( ) .
ويذكر الأزهر الزّنّاد في حدّه للإحالة المقاميّة إلى ما هو خارج اللّغة بأنّها « إحالة عنصر لغويّ على عنصر إشاريّ غير لغويّ موجود في المقام الخارجيّ...ويمكن أن يشير عنصر لغويّ إلى المقام ذاته ، في تفاصيله أو مجملا إذ يمثّل كائنا أو مرجعا موجودا مستقلاّ بنفسه«( ) كأن يحيل ضمير المتكلّم "أنا" على ذات صاحبه ، ونحو قول القائل في جملة معزولة عن سياقها :
- هو قال ذلك .
فالمتلقي لهذه الجملة تصادفه عناصر إحاليّة تحيل إلى ما هو خارج البنية اللّسانيّة ، ممّا يزيد من غموضها واستغلاق دلالتها؛ فمن القائل ؟ وماذا قال ؟ كما ينبغي معرفة ما حدث قبل القول ، فيجب معرفة الأشياء المحال إليها في مكان ما خارج البنية اللّسانيّة بسبب ارتباط العناصر الإحاليّة بسياق الموقف التّداوليّ الّذي تُفَسَّر في ضوئه تلك العناصر الإحاليّة.
ويتّضح من الإحالة الخارجيّة ) exophoric reference (« أنّ ثمّة تفاعلا متبادلا بين اللّغة والموقف ، فالموقف يؤثّر بقوّة في استعمال طرق الإجراء«( ) ، ويضيف قائلا : « وتعتمد الإحالة لغير مذكور في الأساس على سياق الموقف context ...وإذا كان معنى مفهوم ما هو موقعه في عالم النّص فإنّ معنى المرجع في الإحالة لغير مذكور exophora هو مكانه في عالم النّص مع التّركيز على عالم الموقف الاتّصاليّ«( ) ، كما أوضحنا في المثال السّابق ؛ فـ « بدون السّياق نقف عاجزين أمام تفسير ما يقال«( ) .
2 ( - الإحالة اللّغويّة الدّاخليّة ) endophoric reference (:
تعني الإحالة الدّاخليّة في أدبيات الدّراسات النّصيّة الحديثة العلاقات الإحاليّة داخل النّص بحيث ترتبط العناصر الإحاليّة بالعناصر الإشاريّة النّصيّة أثناء تسيّيقها في التّركيب اللّغويّ ؛ وبذلك فهي « إحالة على العناصر اللّغويّة الواردة في الملفوظ ، سابقة أو لاحقة ؛ فهي نصيّة«( ) .
والإحالة الدّاخليّة كما يرى إبراهيم الفقي « هو مصطلح استخدمه بعض اللّغويّين للإشارة إلى علاقات التّماسك الّتي تساعد على تحديد تركيب النّص...وتقسّم إلى anaphora و cataphora «( ) .
وبناء على ذلك نعالج الإحالة الداخليّة ) endophoric reference ( بدراسة نوعيها وهما :
أ ( - الإحالة الدّاخليّة القبليّة ) anaphora (:
يعرّفها إبراهيم الفقي بقوله : هي « استعمال كلمة أو عبارة تشير إلى كلمة أخرى أو عبارة أخرى سابقة في النّص أو المحادثة «( ) ، ويضيف عن وظائفها قائلا : « هي الإشارة إلى ما سبق من ناحية ، والتّعويض عنه بالضّمير أو بالتّكرار أو بالتّوابع أو بالحذف من ناحية أخرى ، ومن ثمّ الإسهام في تحقيق التّماسك النّصيّ من ناحية أخرى ثالثة «( ) ، وأمّا الأزهر الزّنّاد فيعتبرها « إحالة بالعودة ) anaphora ( وهي تعود على "مفسِّر" (antecedent) سبق التّلفّظ به«( ) ، وحسب سعيد بحيري فإنّ الإحالة القبليّة anaphora إلى سابق أو متقدّم تتمّ « حين تحيل صيغة الإحالة إلى عنصر لغويّ متقدّم ، وقيل : إنّها إحالة بالعودة ؛ حيث تعود إلى "مفسِّر" أو عائد (antecedent) سبق التّلفّظ به ، ومنها يجري تعويض لفظ المفسِّر الّذي كان من المفروض أن يظهر حيث يرد المُضمَرُ«( ) ؛ فالمفسِّر أو العنصر الإشاريّ يُشار إليه أوّلاً ثمّ يُعاد ذكره في صورة بنية مُضمَرة تحيل إليه وتعوِّضه ؛ وبذلك يأتي الضّمير « بعد مرجعه في النّص السّطحيّ «( ) . كما اعتبر إلهام أبو غزالة الإحالة القبليّة بأنّها « الإشارة اللاّحقة ؛ أي استعمال شكل بديل لاحق لتعبير يشاركه في المدلول«( ) .
وهكذا فالإحالة القبليّة تعني إحالة عناصر لسانيّة واردة في الملفوظ ذات سمة إحاليّة إلى عنصر إشاريّ ، سبق التّلفّظ به سابقا عليها ، بحيث تعوِّضه وتختصره وتتّجه إليه بالإحالة فترتبط به شكلاً ودلالةً ، بيد أنّه يُشترط أن تتّفق معه في الخصائص الدّلاليّة .
ولتوضيح ما سبق ذكره نورد الأمثلة التّالية :
قال تعالى : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ، قََيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ، مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ، وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ، مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ ( ) .
نلاحظ في بداية الآيات ورود المسند إليه " اللّه " كعنصر إشاريّ يفسّر كلّ المحيلات اللاّحقة عليه ؛ كما هو مبيّن في الشّكل : (الشّكل رقم02) . الّذي
أنزل ) هو (
اللّه عبده ) الهاء (
عنصر إشاريّ يجعل ) هو (
) مفسِّر( عناصر إحاليّة )الضّمائر(
إحالة داحليّة قبليّة anaphoric reference
وكلّ هذه الضّمائر تحيل إحالة داخليّة قبليّة إلى العنصر الإشاريّ الّذي يفسّرها ويحدّد معناها وهو "اللّه" ، ولفظ الجلالة (اللّه) المتكرّر في صورة ضمائر )متّصلة ومستترة وموصولة( والّتي تسهر على حضوره واستمراره على امتداد طول النّص القرآني لم يرد في موضع الحاجة إليه بل عوّضته واختصرته الضّمائرُ العائدةُ إليه بعد امتصاصها لخصائصه الدّلاليّة ؛ ممّا يجعلها مرتبطة به شكلاً ودلالةً.
ب ( - الإحالة الدّاخليّة البعديّة ) cataphora (:
يعرّفها إبراهيم الفقي بقوله : هي « استعمال كلمة أو عبارة تشير إلى كلمة أخرى سوف تستعمل لاحقا في النّص أو المحادثة«( ) ، ويحدّها إلهام أبو غزالة بأنّها «استعمال الشّكل البديل الّذي يسبق التّعبير المشارِك في المدلول«( )، كما حدّها روبرت دي بوجراند بأنّها « نوع من الإحالة المشتركة يأتي فيه الضّمير قبل مرجعه في النّص السّطحيّ «( ) ، ولا يبعُد عن هذا التّحديد لمفهوم الإحالة البعديّة كافّة علماء النّص ؛ فجلّهم يتّفقون من حيث المبدأ الّذي يقوم عليه هذا النّوع من الإحالة وهو تقدّم العنصر الإحاليّ على مُفَسِّره . يقول سعيد بحيري بأنّ الإحالة إلى لاحق أو متأخّر cataphora تتمّ « حين يحيل عنصر لغويّ أو مكوّن ما إلى عنصر آخر تال له في النّص أو مكوّنات من عدّة عناصر متأخّرة عن عنصر الإحالة ، وقيل هي تعود على عنصر إشاريّ مذكور بعدها في النّص ولاحق عليها«( ) ؛ فالعنصر الإشاريّ يذكر بعد العنصر الإحاليّ ويأتي لاحقا عليه .
فالإحالة البعديّة أو اللاّحقة إذن تعني ورود العنصر الإحاليّ قبل مرجعه ومُفَسِّره الّذي يعود عليه ويحيل إليه ، وهي عكس الإحالة القبليّة anaphora ، وسنوضّحها في الأمثلة التّالية :
قال تعالى :قُُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( )
في هذه الآية الكريمة ورد العنصر الإحاليّ المتمثّل في ضمير الشّأن "هو" قبل مرجعه ، وقد فسّر إبهامه وغموضه ما تلاه وهو العنصر الإشاريّ "اللّه أحد" ؛ ولذلك فإحالة ضمير الشّأن "هو" في الآية إحالة داخليّة بعديّة أو لاحقة cataphora .
قال تعالى :مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ( ) .
وقال تعالى : يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ( ) .
وقال تعالى :وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ( ).
نلاحظ في الآيات الثّلاث السّابقة ورود العنصر الإحاليّ المتمثّل في ضمير الشّأن قبل مرجعه حيث أدّى وظيفة الإحالة البعديّة إلى مفسِّر متأخّر .
وفي سياق التّمثيل للإحالة البعديّة نأتي بمثالين مزيدا من التّوضيح ؛ فأمّا الأوّل فقول أبي العلاء المعري (الخفيف):
تَعِبٌ كُلُّهَا الحَيَاةُ فَمَا أَعجَبُ إِلاَّ مِن رَاغِبٍ فِي ازدِيَادِ
إنّ ضمير"الهاء" في الشّطر الأوّل "كلّها" يحيل إحالة داخليّة بعديّة إلى كلمة "الحياة" ؛ وهذا الأخير بمثابة العنصر الإشاريّ أو مفسِّر الضّمير .
وأمّا المثال الثّاني يتمثّل في القطعة النثريّة التّاليّة :
« ترك وجهه يغتسل بنسيم الفجر ، لكن روحه لم تنتعش ، تريّثَ قبل أن ينحدر في الأرض المسوّاة الممتدّة وراءها غابات النّخيل ، ووراء ذلك النّخل يلوح هنا وهنا بين فرجات الشّجر ، المنظر ، كان محيميد يراه آخر مرة... «( ).
ففي هذه العبارة أُضمر المسند إليه في الفعل "ترك" منذ البداية ، ثمّ فُسِّر بعد ذلك بالعنصر الإشاريّ وهو اسم العلم "محيميد"، وتلكم إحالة داخليّة بعديّة cataphora .
رابعًا:التّماسك الضّميري عند علماء العربيّة القدامى.
أشرنا آنفا إلى إدراك علماء العربيّة القدامى الإحالةَ الضّميريّة ودورَها في تماسك الكلام وانسجامه ، ونعود الآن لنعرض بشيء من التّفصيل آراءهم من خلال تحليلاتهم ومدارساتهم للنّص القرآني والنّصوص الشّعريّة ؛ وهذا ما اضطلع به النّحاة والمفسّرون والشّرّاح والنّقّاد وغيرهم ، وتحدّثوا عن الدّور الحاسم الّذي تؤدّيه الضّمائر في شدّ البنى النّصيّة الصّغرى المتفرّعة عن البنية النّصيّة الكبرى ووصلها بها في نصّ ما حيث تنسج الضّمائر خيوطا على امتداد الفضاء النّصيّ ضامنة استمراريّة خطّية الكلام على المستوى التّراكبي مختصرة العناصر الإشاريّة بتعويضها وامتصاصها .
وبناء على ذلك ينبغي الآن الوقوف عند تحليلات علمائنا القدامى لتبيان دور التّماسك الضّميري شكليّا كان أم دلاليّا على مستوى جملة واحدة أو أكثر ، وقبل ذلك نشير في هذا السّياق إلى أنّ الضّمائر « تكتسب أهميتها بصفتها نائبة عن الأسماء والأفعال والعبارات والجمل المتتالية..ولا تقف أهمّيتها عند هذا الحدّ ، بل تتعدّاه إلى كونها تربط بين أجزاء النّص المختلفة ، شكلا ودلالة ، داخليّا " endophoric " وخارجيّا " exophoric " ، وسابقة " anaphoric " ولاحقة " cataphoric " « ( ) .
ومادام للضّمائر هذه المرونة البالغة الأهمّية في التّعويض عن الأسماء تارة ، والنّيابة عن الأفعال والعبارات تارة ، وحلولها محلّ نصوص لها من الطّول ما للكوميديا الإلهيّة تارة أخرى.. وهكذا دواليك ؛ كان لابدّ من مساءلة علمائنا القدامى آراءَهم حول ما إذا كان للضّمائر دور فعّال في تحقيق التّرابط النّصيّ أم لا ؟ وما إذا كان هذا الدّور على مستوى جملة واحدة أو أكثر ؟ وهل أدرك هؤلاء الإحالة الضّميريّة : الدّاخليّة والخارجيّة، القبليّة والبعديّة ؟ وهل وعوا ذلك ؟ فإن كان الأمر كذلك فيم يتمثّل ؟ ، تلك الأسئلة وغيرها نجيب عنها في ثنايا هذه المحاضرة من خلال تحليلنا لآراء القدامى ونظراتهم .
بادئ ذي بدء نشير إلى بعض أسماء علمائنا الّذين سنعرض لآرائهم بالتقصّي والتّحليل وهم : سيبويه ) ت180هـ( ، الفرّاء )207هـ( ، عبد القاهر الجرجاني )ت471هـ( ، الزّمخشري )ت538هـ( ، العكبري )ت616هـ( القرطبي )ت671هـ( ، الرّضي )ت686هـ( ، ابن هشام )ت761هـ( والسّيوطي ) ت911هـ( ، وغيرهم كثيرون.
وانطلاقا من ذلك نحاول في مايلي أن نأخذ نماذج للنّحاة والمفسّرين وشرّاح الشّعر ونقّاده مدلّلين على نضج نظريّة الإحالة عند هؤلاء القدامى في إيجاز ، لأنّ المقام ليس مقام تفصيل وإنّما هو مقام تأصيل وتأثيل .
أ)_ سيبويه )180هـ( : يأتي سيبويه من بين علماء العربيّة الأفذاذ في الصّدارة حين أشار إلى الدّور الّذي تؤدّيه المعوِّضات أو الأسماء المُبهَمة الّتي تمتلك سمة الإحالة وتفتقر في المقابل إلى مرجع يُفسِّرها ، يشير سيبويه إلى الإحالة النّصيّة اللاّحقة قائلا :« فأمّا المبني على الأسماء المُبهَمة فقولك : " هذا عبد اللّه منطلقا " ..فـ " هذا " اسم مبتدأ ليُبنَى عليه ما بعده وهو " عبد اللّه " ولم يكن ليكون هذا كلاما حتّى يُبنَى عليه أو يُبنَى على ما قبله... «( ) ؛ وبذلك شرح قضية التّماسك الشّكليّ والدّلاليّ ، كما يمضي في وضع اللّبنات الأولى لتشيّيد صرح نظرية الإحالة منذ القرن الثّاني الهجري حيث يشرحها بقوله : « بدؤوا بالإضمار لأنّهم شرطوا التّفسير وذلك نووا ..
ومثل ذلك " ربّه رجلا " .." نعم رجلا " ..
ولا يجوز لك أن تقول : " نعم " ولا " ربّه " وتسكت ، لأنّهم إنّما بدؤوا بالإضمار على شريطة التّفسير ، وإنّما هو إضمار مُقدَّم قبل الاسم ، والإضمار الّذي يجوز عليه السّكوت نحو : " زيد ضربته " إنّما أضمر بعدما ذكر الاسم مظهرا فالّذي تقدّم من الإضمار لازم له التّفسير حتّى يبيّنه..
وممّا يُضمَر لأنّه يفسِّره ما بعده ، ولا يكون في موضعه مظهر قول العرب : " إنّه كرام قومك "..فالهاء إضمار الحديث الّذي ذكرت بعد الهاء... «( ).
بناء على ما جاء به سيبويه في نصوصه الّتي أوردناها حتّى الآن عن الضّمير ومفسِّره والموضع الّذي يشغله كلٌّ منهما في الكلام ندرك مدى سبقه لعلماء النّص المحدثين في صياغة نظريّة للإحالة الضّميريّة وإن على مستوى الجملة ؛ فإمّا أن يرد المُفسِّر أو ما اصطلح على تسميّته عند علماء النّص المحدثين بـ "العنصر الإشاري" قبل الضّمير أو المُعَوِّض الّذي يفتقر إلى مرجع يفسِّره ويُزيل إبهامه وغموضه ؛ وبذلك تكون الإحالة قبليّة أو سابقة "anaphoric reference " ، وإمّا أن يتخلّف المفسِّر عن الضّمير ويأتي لاحقا عليه فحينئذ تكون الإحالة بعديّة أو لاحقة " cataphoric reference "، بيد أنّ هذه الضّوابط والشّروط المتعلّقة باتّجاه الإحالة تعمل في الجملة كما تعمل أيضا في النّص ، وما قاله سيبويه عن الإحالة الضّميريّة على مستوى الجملة يمكن أن ينسحب على النّص .
ب)_ الفرّاء )ت207هـ( : أمّا الفرّاء فنجده يتحدّث عن مرجعيّة الضّمير أو الإحالة الضّميريّة على امتداد النّص ، يقول معلّقا على قوله تعالى :يَأْتِيكُم بِه( ) قائلا : « يقال : إنّ الهاء الّتي في )به( كناية عن الهدى«( ) ؛ فإذا اطّلعنا على سورة الأنعام نجد كلمة " الهدى " قد ذكرت في الآية )35( من السّورة نفسها ثمّ ذكر الضّمير )الهاء( الّذي يحيل إلى الهدى عبر عشر آيات في قوله تعالى :وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ( ).
إنّ إرجاع الفرّاء العنصر الإحالي إلى مرجعه المُفَسِّر له لم يكن اعتباطيّا ؛ فقد استند إلى دلالة الآيات السّابقة كلّها حتّى إذا ما عثر على العنصر الإشاريّ المطابِق في سماته الدّلاليّة للضّمير أو العنصر الإحالي فسَّره به ، وتلك الإحالة كما نرى من خلال تحليل الفرّاء إحالة نصيّة سابقة "anaphoric reference ".
أمّا عن الإحالة المقاميّة " exophoric reference " الّتي لا يمكن عبرها تفسير العناصر الإحاليّة إلاّ بالرّجوع إلى السّياق الخارجيّ حيث اعتمد علماؤنا القدامى في مدارستهم النّص القرآني وتفسيره في ضوء العودة إلى السّياق المتمثّل في أسباب النّزول كلّما اقتضت الضّرورة ذلك بسبب اللّبس والغموض اللّذان يلفّان معاني الآيات لاحتوائها أحيانا على بعض الضّمائر الّتي تحيل إلى عناصر إشاريّة غير مذكورة في النّص ؛ فينبغي أن يبحث مُفَسِّر النّص القرآني ومُؤَوِّلُه عن مراجعها في السّياق ، وربطها بعناصرها الإحاليّة . يقول الفرّاء )ت207هـ( في تعليقه على قوله تعالى :وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ( ) قائلا: « المقسمون : الكفّار ، سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يأتيهم بالآية الّتي نزلت في الشّعراءإِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ( ) ، فسألوا رسول اللّه أن ينزلها عليهم حتّى يؤمنوا ، فأنزل اللّه تبارك وتعالى : قل للّذين آمنوا وَمَا يُشعِرِكُم أَنَّهَا إِذَا جَاءَت لاَ يُؤمِنُون..«( ).
يبدو من خلال عرضنا لتعليق الفرّاء اعتماده على السّياق الخارجيّ في بحثه عن العنصر الإشاري الكامن في الحقل الإشاريّ الخارجيّ والمُفَسِّر للضّمير والمُعيِّن لدلالته ، كما يظهر من تعليقه إدراكه لوظيفة السّياق المقامي عبر أسباب النّزول ومناسباتها الّتي برز دورها التّفسيري أن ضبطت الوسيط المقاميّ ففكّت شفرة العنصر الإحاليّ ، ولولا استناد الفرّاء إلى المقام الخارجيّ لما زال اللّبس الّذي سيقع فيه القارئ لا محالة ؛ وبذلك يكون الفرّاء وغيره من علماء العربيّة ممّن عكفوا على النّص القرآني -دراسة وتحليلا ، تفسيرا وتأويلا قد سبقوا علماء النّص المحدثين عندما أكّدوا على دور السّياق في تحديد دلالات بعض العناصر الإحاليّة وهو ما يعرف لديهم بـ " الإحالة الخارجيّة أو المقاميّةexophoric reference " .
وانطلاقا من ذلك يزداد إدراكنا لدور الضّمائر في الرّبط والإحالة والتّماسك شكليّا ودلاليّا ؛ فأهمّيتها لا تتوقّف كونها نائبة أو معوِّضة عن الأسماء أو الأفعال أو العبارات ، بل يقتضي وجودها ربط الكلم بعضه ببعض « حيث لا نظم في الكلم ولا ترتيب حتّى يعلق بعضها ببعض ، ويُبنى بعضُها على بعض ، ويجعل هذه بسب من تلك«( ) ؛ فالضّمائر تُعدّ من أنظمة الرّصف الشّكلي والدّلاليّ في العربيّة ، بل يكاد لا يخلو أيُّ نصّ منها مهما كان قصيرا أو طويلا، ومن هنا اكتست أهمّيتها لأنّ الإنسان يحسّ بصعوبة عندما يعكف على ذكر تفاصيل الأشياء الّتي يتحدّث عنها ، أو يعيد ما سبق له أن ذكره في مقام آخر ؛ فلاجتناب الحشو أو الملل والاقتصاد في الجهد والوقت يلجأ الباثّ )المتكلّم أو الكاتب( إلى توظيف ما دأب النّصيّون على تسميّته بـ "المُعَوِّضات" ، بل إنّ ورودها أو تقديرها أحيانا يكون إجباريّا لفهم النّص .
ج)_ عبد القاهر الجرجاني )ت471هـ( : يقول عبد القاهر الجرجاني في تعليقه على قوله تعالى :قُل ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى( ): إنّه مَن نظر إلى هذه الآية و « لم يعلم أن ليس المعنى في " أدعوا " الدّعاء ، ولكنّ الذّكر بالاسم...وأنّ في الكلام محذوفا وأنّ التّقدير : قل أدعوه اللّه ، أو أدعوه الّرحمن..كان بعرض أن يقع في الشّرك من حيث أنّه إن جرى في خاطره أنّ الكلام على ظاهره ، خرج ذلك به ، والعياذ باللّه تعالى ، إلى إثبات مدعوَّين ، تعالى اللّه عن أن يكون له شريك«( ) ؛ فالتّقدير الّذي جاء به عبد القاهر الجرجاني للضّمير المحذوف )أدعوه( أزال الغموض وفكّ اللّبس المؤدّي إلى الشّرك باللّه ، وقد أثبت بتقديره للضّمير وحدانية المدعوّ وهو كما يلي : (الشّكل رقم03)
اللّه
أدعوه )الهاء ( الرّحمن
الضّمير المفسّر
) العنصر الإحاليّ ( )العنصر الإشاريّ (
الأستاذ: نزار ميلـــــود .
أوّلاً : تمهيــد.
لقد التفت العرب القدامى إلى ظاهرة الإحالة )العائدية( الضّميريّة وصنّفوا الضّمائر إلى متّصلة ومنفصلة ومستترة وظاهرة وإشاريّة وموصولة..إلخ .
كما اهتمّ اللِّسانيُّون المُحدَثُون من العرب والأعاجم بالظّاهرة الآنفة الذكر، وقاربوها من زاويا مختلفة: تركيبية أو دلاليّة أو هما معا فصنّفوا الإحالة الضّميريّة إلى قسمين ، وكلّ صنف يستدعي منهجا مخصوصا عندما بيّنوا أنّ الإحالة الضّميريّة تختلف باختلاف طبيعة مفسِّر الضّمير ؛ إذ إنّ الإحالة تكون لغويَّة )نصّيّة( إذا كان مفسِّر الضمير مذكورا داخل النص ، أما إذا كان خارجه فتغدو الإحالة تداوليَّة .
لقد انحصر اهتمام التّداوليّات في الإحالة المقاميّة)العائديّةالحرّة( حين يكون مفسِّر الضّمير غير مذكور في السّياق اللّغويّ فنتوسّل لتعيِّينه بإجراءات تداوليّة ( )عبر الوسيط المقاميّ ومتغيِّراته.
إنّ الجهاز الوصفيّ لنحو الجملة لا يقوى على رصد الإحالة الضميريّة وضبطها حيث العلاقة بين الضّمير ومفسِّره على مسافة بعيدة ، وهو ما أهاب بلسانيّي الجملة إلى عدم الاهتمام بالظاهرة حرصا على تناغم طروحاتهم النظريّة مادام مجال الإحالة بشتى تجليّاتها هو الخطاب لا الجملة .
وبناء على ذلك ينبغي أن توصف الإحالة وتفسَّر في إطار أوسع يكبر الجملة لاسيّما أنّها تسهر على اطّراد بعض الوحدات المعجميّة والعناصر الإشاريّة وتواصلها المستمرّ داخل النص أو الخطاب كتكرارها لفظا أو دلالة أو هما معا أو استبدالها بعضها ببعض يحلّ محلّها ويضطلع بوظيفتها أو حذف وحدة لسانيّة استنادا إلى الخلفيّة المعرفيّة المشتركة بين المخاطِب والمخاطَب .
ثانيًّا: مفهوم الإحالة:
أ) لغـةً:
جاء في لسان العرب : « المُحَال من الكلام : ما عدل به عن وجهه ، وحوّله جعله محالا ، وأحَال أتى بمُحَال ، ورجل مِحوَالٌ : كثير محال الكلام...ويقال أحلت الكلام أحيله إحالة إذا أفسدته . وروى ابن شميل عن الخليل بن أحمد أنّه قال : المحال الكلام لغير شيء...والحِوَالُ : كلّ شيء حال بين اثنين ...حال الرّجل يحول تحوّل من موضع إلى موضع . الجوهريّ : حال إلى مكان آخر أي تحوّل ... «( ).
إنّ كلمة " أحال " تستعمل لازمة ومتعدّيّة ؛ وإذا تعدّت فإنّها تعني نقل الشّيء من حال إلى حال أخرى وتعني توجيه شيء أو شخص على شيء أو شخص آخر لجامع يجمع بينهما ، كما تجوز الدّلالة بها على المعنى الاصطلاحيّ الّذي يحيل فيه العنصر الإحاليّ على عنصر إشاريّ يفسّره ويحدّد دلالته .
ب) اصطلاحًا:
بادئ ذي بدء نشير إلى أنّ مفهوم " الإحالة " الّذي نرتضيه ونرمي إليه من خلال بحثنا ليس ذلك المفهوم الفلسفي التّقليدي الّذي هو«العلاقة القائمة بين الأسماء والمسميات«( )، بل نقصد من وراء إطلاق مصطلح " الإحالة " المفهوم النّصيّ الّذي يتردّد على ألسنة علماء النّص ؛ إذ « يثير مفهوم الإحالة ونعني مقابلها في اللّغات الغربيّة كالفرنسيّة référence مثلا مشكلا اصطلاحيّا ، إذ هي تعني تارة العمليّة الّتي بمقتضاها تحيل اللّفظة المستعملة على الشّيء الموجود في العالم أي ما كان يسمّيه القدامى "الخارج" وهي تعني تارة أخرى إحالة اللّفظة على لفظة متقدّمة عليها«( ).
إنّ مصطلح "الإحالة" في البحث اللّسانيّ يشير إلى مفهومين مختلفين :
أوّلهما تقليديّ: وهو ما كانت اللّسانيّات التّقليديّة لا سيّما البنيويّة لا تعتبره من صميم الدّراسة اللّسانيّة العلميّة الحقّة ؛ فكانت تعتبر المرجعيّة "la référence" « مجالا ينبغي إبعاده من الدّراسة اللّسانيّة بالرّغم من الأهميّة الّتي يكتسيها في فهم الخطاب البشريّ«( ).
وثانيهما: هو إحالة العناصر اللّغويّة إلى بعضها البعض داخل نصّ من النّصوص لتشكّل عالما نصيّا ، فـ « الإحالة هي العلاقة بين العبارات objects والأحداث events والمواقف situations في العالم الّذي يدلّ عليه بالعبارات ذات الطّابع البدائليّ alternative في نصّ ما ؛ إذ تشير إلى شيء ينتمي إلى نفس عالم النّص«( ) الّذي يشمل كلّ السّياقات والأحداث والوظائف التداوليّة لكلّ عنصر من عناصر النّص على اعتبار أنّه بديل لما هو موجود في الخارج .
ويذهب سعيد بحيري إلى أنّ « الإحالة هي العلاقة القائمة بين عنصر لغويّ يطلق عليه "عنصر علاقة" وضمائر يطلق عليها "صيغ الإحالة" وتقوم المكوّنات الاسميّة بوظيفة عناصر العلاقة أو المفسِّر أو العائد إليه«( ) ؛ فالإحالة كما هو واضح من تحديد سعيد بحيري هي العلاقة بين عنصرين أحدهما إشاريّ و الثّاني إحاليّ حيث يقوم العنصر الإشاريّ بدور التّفسير والتّبيّين لدلالة العنصر الإحاليّ الّذي يعود عليه ؛ وتلك العائديّة ضميريّة كانت أو إشاريّة أو تكراريّة تسهم في تماسك النّص وترابط أجزائه المتباعدة في فضائه ، وبذلك تعدّ الإشارات اللّغويّة الّتي تتصدّر النّص ذات قيمة كبيرة في صياغة موضوع الإحالة تتركّز فيها عناصر النّص الدّلاليّة ، وتعدّ منه بمنزلة التّفسير ، والإحالة هي إحالة عنصر على عنصر متقدِّم أو مستهَلٍّ به أو ما يمكن تسميّته بـ "العنصر الإشاريّ" ؛ وبذلك تكون الإحالة عوداً على بدء وربطاً للآخر بالأوّل ، وفي هذا الرّبط يتحقّق الانسجام والتّرابط أو ما يدعى بـ "التّماسك النّصي" حيث « ندرك تحت التّضافر الاسميّ مجموع الإحالات بين الأسماء بكلّ ما في الكلمة من معنى هي ظواهر نصيّة داخليّة . ومن ثمّ فهي انعكاسات نصيّة لأفعال التّعلّق الدّاخليّ بما هو خارجيّ«( ).
إنّ البنيّة الإحاليّة في أيّ نصّ مُنجَز تتّصل بمستواه الدّلاليّ اتّصالا وثيقا لأنّها تفتح المجال للقراءة والتّأويل في إطار سياق أو مرجعيّة تتحكم في التّأويل وتحديد المعنى المقصود من بين المعاني المحتملة ؛ فقد تكون بنية العقائد بنية إحاليّة تشكّل قاعدة ثقافيّة واجتماعيّة ومرجعا يستعين به النّاقد والقارئ للفهم والتّأويل على اعتبار أنّ النّص الأدبيّ ينفعل بكلّ ما يحيط به من أحداث وظواهر ويعجّ بمشاعر ومبادئ ثقافيّة ودينيّة ... وتؤسّس هذه الجوانب الخارجيّة بنية مرجعيّة إحاليّة لا غنى للنّاقد من الرّجوع إليها والإحالة عليها لتمام الفهم ، وبذلك تكون البنية الإحاليّة مفهوما يعكس الخلفيّة الّتي ينبغي الرّجوع إليها لوضع النّص في إطاره العامّ ، ويجنّب النّاقد أو القارئ كلّ قراءة جزئيّة تُخرِج النّص عن إطاره وسياقه الّذي ولد فيه .
ويذكر أحمد عفيفي تعريفا أكثر شمولا للإحالة فهي « ليست شيئا يقوم به تعبير ما، ولكنّها شيء يمكن أن يحيل عليه شخص ما باستعماله تعبيرا معيّنا«( ) ؛ فمادام للباثّ )المتكلّم أو الكاتب( الحقّ في بناء الإحالة حسبما يريد فشرط انبنائها هو النّص من خـلال عناصر إحاليّة تقوم على مبدإ التّماثل بين ما سبق ذكره في مقام آخر وبين ما هو قائم لأنّ الأسماء عموما تعيد أو تستحضر في أذهاننا مسمياتها بوجوب علاقة دلاليّة تخضع لقيد التّطابق بين الخصائص الدّلاليّة بين العنصرين المحيل والمحال عليه ؛ وبذلك تعدّ الإحالة ضامنة لانسجام مكوّنات أجزاء النّص بربط مفاهيمه وجمله وفقراته«( ).
ولا مناصّ من الإشارة في هذا السّياق إلى أنّ الأزهر الزّنّاد يعرّف الإحالة بقوله : « الأصل في الإحالة أن يجري تعيّين المرجع أو المفسِّر ثمّ تجري الإحالة عليه بعد ذلك ، إحالة اللاّحق على السّابق«( ) ، ورغم هذا فإنّ القلب في اتّجاه الإحالة لا يمنع انسجام النّص؛ فالبنية الإحاليّة في النّص تتميّز عن البنية التّركيبيّة لأنّها تعمل في الاتّجاهين دون ضير بالمعنى ؛ فقد يأتي العنصر الإشاريّ أو المفسِّر المعيَّن بعد العنصر الإحاليّ ولاحقا عليه نحو ضمير الشّأن في العربيّة حيث يكمن عنصر الانسجام الّذي توفّره الإحالة في كونها تتطلّب من القارئ البحث عن أواصر العنصر الإشاريّ الغائب الحاضر في النّص فتكوِّن بذلك عُقَدًا أسلوبيّة تقوّي خيط الخطاب لأنّها تتخلّى عن جاهزيّة المعنى وما فيه من إهدار للطّاقة المعنويّة المُكثَّفَة و المُختَزَلَة في العنصر الإحاليّ .
وبناء على ذلك اعتبر محمد خطّابي « الإحالة علاقة دلاليّة ، ومن ثمّ لا تخضع لقيود نحويّة إلاّ أنّها تخضع لقيد دلاليّ وهو وجوب تطابق الخصائص الدّلاليّة بين العنصر المحيل والعنصر المحال إليه«( ) فعنصر الانسجام يتولّد من خلال تطابق الخصائص الدّلاليّة بين العناصر الإحاليّة والعناصر الإشاريّة ، وهذا التّطابق من شأنه أن يتحقّق عبر التّعالق النّاجم عن تتابع العناصر في النّص ، وعلى القارئ أن يفترض أنّ هناك ثيمةً أو بؤرةً أمًّا وبنى صغرى متفرّعة عنها تتوالد عبرها إحالات إلى نهاية النّص وعنصر الانسجام يتجلّى في الكشف عن تعالق تلك العناصر بعضها ببعض ؛ أي الكشف عن مكمن التّرابط بينها ؛ فالرّبط الإحاليّ هو « الّذي يمدّ جسور الاتّصال بين الأجزاء المتباعدة في النّص ، إذ تقوم شبكةٌ من العلاقات الإحاليّة بين العناصر المتباعدة في فضاء النّص ، فتجتمع في كلّ واحد )من تلك الأجزاء( عناصره متناغمة«( ) .
إذا لا بدّ من ارتباط دلاليّ ما يَلُمُّ شتات تقطيع خيط الخطاب ليستحوذ على شرعيّته، ويتوفّر على الانسجام والنّصيّة من خلال انتقال التّواشج الجمليّ إلى الصّعيد الأرحب عبر عمليّة متبادلة بين العناصر اللّسانيّة المشكِّلة للخطاب ، فلا مناصّ من إدراك أنّ البنى النّصيّة في تشكّلها وصيرورتها رهينة بتواشج مع جاراتها في سياق معيّن ؛ فبدلا أن يتشظّى الخطاب بين بنى متفرّقة قددا يصبح جملة انسيابيّة واحدة ، تشكّلها أجزاء متناغمة فيما بينها؛ فـ « الإحالة تقوم بدور بارز في إنشاء التّماسك الدّلاليّ للنّصّ ؛ إذ إنّ شيوع ورود صيغ الإحالة الممكن تحديدها في كلّ نصّ تبرز أنّ الإحالة تشغل ضمن العناصر المؤثّرة في تماسك النّص مكانا بارزا ، ويكون بحثها من خلال نحو النّص لتقديم القواعد الّتي يجب أن تفي بقيود ما يسمّى بالنّصيّة " textualité " «( )، كما أنّها « أداة كثيرة الشّيوع والتّداول في الرّبط بين الجمل والعبارات الّتي تتألّف منها النّصوص«( ) ، وبالتّالي فـ « الإحالة من العناصر المؤثّرة في تماسك النّص«( ) وتحقيق انسجامه.
ثالثًا: أنواع الإحالة.
نرى من الضّروري قبل الحديث عن أنواع الإحالة أن نشير إلى أنّ اللّغة تشتمل على نوعين من العناصر يمثّلان قطبي الإحالة وهما : العنصر الإشاريّ والعنصر الإحالي ؛ ففي سياق الحديث عن طبيعة الرّوابط الإحاليّة في النّصوص لا بد من التعريف بهما فيما يلي بإيجاز :
أ ( - العنصر الإشاريّ :
يعرّفه الأزهر الزّنّاد بأنّه « كلّ مكوّن لا يحتاج في فهمه إلى مكوّن آخر يفسّره«( ) فقد يكون لفظا دالاّ على حدث أو ذات كإحالة ضمير المتكلّم (أنا) على ذات صاحبه ، وحينئذٍ يرتبط العنصر الإحاليّ بعنصرٍ إشاريٍّ غير لغويٍّ ممثَّلاً بذات المتكلّم ، أو موقع ما في الزّمان نحو :
بعد أسبوع ، أمس ، غدًا ، الآن ، الأسبوع الماضي ، يوم الجمعة ، السّنة المقبلة ، منذ شهر..الخ ؛ فهذه العناصر الإشاريّة تحدّد زمنًا بعينه بالقياس إلى زمان التّكلّم أو مركز الإشارة الزّمانيّة ( ).
أو المكان نحو :
- ظروف المكان (هنا ، هناك ، فوق ، تحت..الخ) وأسماء الأماكن.. نحو قول القائل :
- أريد أن أعمل هنا .
فهل القائل يعني : في هذا المكتب ، أو في هذه المؤسّسة ، أو في هذا المبنى ، أو في هذا الجزء من المدينة ، أو في هذه الدّولة ، أو غير هذه جميعا ؛ فكلمة "هنا" عنصر إشاريّ لا يمكن تفسيره إلاّ بمعرفة المكان الّذي يقصد المتكلّم الإشارة إليه واتّجاهه انطلاقا من مركز الإشارة المكانيّة ( ).
كما قد يكون جزءا من ملفوظ أو ملفوظات بأكملها جرى التّعبير عليها ثمّ تعاد الإشارة إليها باختزالها في عنصر إحاليّ يعوّضها ، ويتّضح ذلك من خلال تأمّل هذين المثالين فيما يلي :
- من الجزائر نقدّم إليكم نشرة الظّهيرة للأنباء ، وهذا موجزها...
- صرّح ناطق باسم وزارة الخارجيّة فقال ما يلي :...
يتكشّف لنا من خلال المثال الأوّل إحالة ضمير الإشارة (هذا) إحالة بعديّة إلى عنصر إشاريٍّ نصّيٍّ يُفسِّره حيث يتمثّل في الكلام الّذي يليه وهو موجز نشرة الظّهيرة ؛ فالعنصر الإشاريُّ هنا جزء من الملفوظ أو قد يكون هو الملفوظ بأكمله ، وهذا ما ينسحب على المثال الثّاني .
وقد يكون عبارة عن مفاهيم جرى التّعبير عليها في صورة أسماء مفردة أو مركبات اسميّة تُذكَر صراحة أوّل مرّة في النّص ( ) ، وبالتّالي فالعنصر الإشاريّ يُشار إليه إشارة أوّليّة بحيث لا يرتبط بإشارة أخرى سابقة أو لاحقة لأنّه مؤشّر (index) لذاته ، وفهمه ليس مبنيّا على غيره من العناصر اللّسانيّة بسبب ارتباطه بالحقل الإشاريّ (deictic field) ارتباطا مباشرا دون توسّط أيّة عناصر إحاليّة أخرى لأنّها تكوّن العناصر الأساسيّة الدّنيا في عالم أيّ خطاب ( ) ؛ ولذلك فهي ضروريّة الورود لتُجِيز وجود العناصر الإحاليّة .
وبناء على ذلك يذكر الأزهر الزّنّاد أنّه بمجرّد أن يتلفّظ الإنسان يصبح ذلك الملفوظ « ملكا له ، فتنحصر الأبعاد الجماعيّة في اللّغة كي تحلّ محلّها الأبعاد الفرديّة المقترنة بالآن والهنا والأنا والأنت...وقرائنها هي العناصر الإشاريّة...وهذه القرائن شرط في فهم الملفوظ وإعطائه معنى لأنّها ترتبط بالمقام«( ) ؛ فتلك العناصر اللّسانيّة المُحِيلة إلى الذّوات أو الأزمنة أو الأمكنة أو أجزاء من ملفوظات أو ملفوظات برمّتها لا يمكن معرفة ما تدلّ عليه لأنّها أشكال لسانيّة فارغة في المعجم ، فينبغي تفسيرها في ضوء ارتباطها بالمقام أو الحقل الإشاريّ لمعرفة قرائنها الّتي تحدّد معانيها وتعيّن دلالاتها .
ويذكر شاهر الحسن في السياق ذاته قائلا : « إنّ المؤشّرات اللّغويّة الضّمائر ، أسماء الإشارة ، والظّروف الزّمانيّة والمكانيّة ...تتحدّد مدلولاتها الدّقيقة في ضوء عناصر المقام والعبارة الّتي ترد فيها هذه المؤشّرات«( ) .
ومن الجدير بالذّكر الإشارة إلى أنّ هناك نوعين من العناصر الإشاريّة وتتمثّل في :
العناصر الإشاريّة المعجميّة : وتتمثّل في الوحدات المعجميّة المفردة الّتي يُحال عليها .
العناصر الإشاريّة النّصيّة : وهي عبارة عن مقطع أو جزء من ملفوظ أو ملفوظ كامل يُحال عليه نحو قوله تعالى:
هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ، يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( ).
نلاحظ احتواء هذه الآية على عناصر إشاريّة معجميّة وعنصر إشاريّ نصّيّ واحد فقط ، وتتمثّل الأولى في( السّماء ، شراب ، شجر ، الزّرع ، الزّيتون ، النّخيل ، الأعناب ، الثّمرات ) ، بينما يتمثّل الثّاني في الملفوظ السّابق على العنصر الإحالي وهو ضمير الإشارة (ذلك) حيث ورد هذا الأخير اختزالاً للكلام واقتصادًا للجهد واجتنابًا للتّكرار حين أحال إلى ملفوظ يحتوي عناصر إشاريّة معجميّة ومجموعة أحداثٍ تلتقي كلّها في نتيجة ينبني عليها الحدث أو المعنى الّذي يحيل عليه العنصر الإحاليّ الجامع لكلّ ما تقدّم عليه ، ونمثّل لذلك بالشّكل التّالي : (الشّكل رقم01)
عناصر إشاريّة معجميّة عنصرإحاليّ حدث/معنى
(السّماء ، شراب ، شجر ، الزّرع ، الزّيتون (ضمير الإشارة) (جامع)
النّخيل ، الأعناب ، الثّمرات)
أحداث (أنزل ، يُنبت ، تسيمون)
عنصر إشاريّ نصّيّ (ذلك) (آية)
إحالة داخليّة قبليّة إحالة داخليّة بعديّة
وللقارئ أن يُلاحظ كثافة العناصر الإشاريّة المعجميّة من خلال الشّكل مقابل عنصر إشاريّ نصيّ واحد فقط ، و في هذا السّياق يذكر سعيد بحيري أنّ العنصر الإشاريّ النّصيّ « يتميّز عن الأوّل في طبيعة تكوينه والهدف منه ؛ أي أنّ العناصر الإشاريّة النصيّة هي مقاطع من الملفوظ قد تطول وقد تقصر ، وقد تمثّل جزءا من مقاطع تجري الإحالة عليها للاختصار واجتناب التّكرار ، وتتميّز هذه العناصر الإشاريّة النّصيّة عن العناصر الإشاريّة المعجميّة بكونها أقلّ انتشارًا«( ).
ب ( العنصر الإحاليّ:
يعرّفه الأزهر الزّنّاد بقوله : « العنصر الإحالي هو كلّ مكوّن يُحتاج في فهمه إلى مكوّن آخر يفسّره«( ) ؛ وبذلك تكون العناصر الإحاليّة فارغة دلاليّا ممّا يجعل تفسيرها رهين ربطها بالعناصر الإشاريّة الّتي تعوّضها ، ويذكر محمد خطّابي بأنّ « العناصر المحيلة كيفما كان نوعها لا تكتفي بذاتها من حيث التّأويل إذ لا بدّ من العودة إلى ما تشير إليه من أجل تأويلها ، وتتوفّر كلّ لغة طبيعيّة على عناصر تملك خاصيّة الإحالة«( ) .
ولحاجة القارئ إلى مزيد من المعلومات والتّوضيح يذكر الأزهر الزّنّاد في مقام آخر أنّ « العنصر الإحاليّ كما تقرّر في الدّرس اللّغويّ مكوَّن يعوّض مكوَّنا آخر ذُكِر في موضع آخر سابق عادة ...فعوض أن يرد العنصر الإشاريّ في موضع الحاجة إليه بعد أن ورد أوّل مرّة يرد عنصر إحاليّ ينوب عنه ويؤدي معناه ويحمل جملة المقولات الّتي يحملها مفسِّره : الجنس العدد...هو صدى لغيره من المكوّنات إذ لا يُفهم إلاّ بالعودة إليها ، ثمّ هو يطابقها في عدد من السّمات التّركيبيّة والمقوليّة«( ) وللتّوضيح نورد المثال التّالي :
- أهدى لي أستاذٌ كتابًا ، هو مؤلِّفه .
فالاسم النّكرة (أستاذ) الّذي يرد أوّل مرّة في النّصّ يُمثّل معلما إشاريًّا يحمل سمات مقوليّةً في ذاته ، وعند الحاجة إلى ذكره مرة أخرى يُعوَّض بمضمر وهو الضّمير المتّصل بلفظ (مؤلِّفه) في الجملة الثّانية شريطة أن يحمل هذا المعوِّض النّائب عن العنصر الإشاريّ سماته المقوليّة (الجنس ، العدد ، التّذكير ، التّأنيث ، الإفراد ، الجمع ، التّثنية...) ويضطلع بأداء وظيفته ودوره المعنويّ لأنّه يُفسَّر في ضوئه ، ويمكن ملاحظة السِّمات المقوليّة الجامعة بين العنصر الإشاريّ (أستاذ) والعنصر الإحاليّ (هو) فيما يلي :
- أستاذٌ (+عاقل ، +مذكّر ، +مفرد ، +كهل ، معرفة...) .
- هو (+عاقل ، +مذكّر ، +مفرد ، +كهل ، +معرفة...) .
ورغم الاختلاف الحاصل ما بين العنصر الإشاريّ (أستاذٌ) والعنصر الإحاليّ (هو) في التّنكير والتّعريف فلا يتّفق لنا أن نعيد كلمة (أستاذ) بلفظها النّكرة حيث يتعطّل الفهم وينصرف الذّهن إلى أنّ (أستاذٌ) الثّانية غير الأولى ؛ ولذلك جيء بالضّمير وهو معرفة فعوَّض اسمًا نكرة .
ففي « الإحالة يحكم العنصر الإشاريّ العناصر الإحاليّة المتعلّقة به كلّها«( ) دون أن تفرض على هذا التّحكّم الخطّية في الكلام اتّجاها معيّنا ؛ لأنّ العنصر الإحاليّ قد يشير إلى ما سبق ذكره أو إلى ما سيأتي لاحقا عليه بل إنّ مصطلح العنصر الإحاليّ يطلق على نوعين من العلامات«
1 العلامات الّتي ترجع إلى الوراء وتسمّى anaphoric reference
2 العلامات الّتي تتقدّم إلى الأمام وتسمّى cataphoric reference « ( )، نحو :
هذه هي القصّة الّتي قرأتـها .
فالهاء في (قرأتها) ترجع إلى كلمة (القصّة) السّابقة الذّكر وعوّضتها ، وأمّا العلامات الّتي تتقدّم نحو الأمام فتُعرف عند ملاحظة ضمير الإشارة من المثال التّالي :
اسمعوا هذا : عمر سيتزوّج . فـ(هذا) عنصرٌ إحاليُّ يُشير إلى لاحق (عمر سيتزوّج).
وهكذا ننتهي إلى القول بأنّ العنصر الإشاريّ قسيم العنصر الإحاليّ ورديفه الّذي يلازمه في أيّ نصّ ، ولا يكون للأخير قيمة في غياب الأوّل ؛ فالعنصر الإشاريّ هو المُحدِّد والمُبيِّن للعنصر الإحاليّ بحيث يزيل إبهامه؛ وبالتّالي فحضوره ضروريّ إمّا متقدّما أو متأخّرا حتّى تتمّ الإحالة إليه لأنّ الاضطراب يشيع ويختلّ النّص ويستغلق الفهم حين عود العنصر الإحاليّ على أكثر من عنصر إشاريّ واحد .
1 ( - الإحالة الخارجيّة ) exophoric reference (:
ترتبط الإحالة الخارجيّة بالمقام التّداوليّ المحيط بالنّص أو الملفوظ ؛ فالعناصر الإحاليّة نحو : الضّمائر ، والإشارات ، الموصولات ، ظروف الزّمان والمكان...إلخ يرتبط تفسيرها بالمقام الإشاريّ الخارجيّ ؛ وبالتّالي فلسياق الحال دور حاسم في تأويلها وتحديد دلالاتها وضبط معانيها لأنّها عناصر لسانيّة فارغة معجميّا ، ولا يكون لها من معنى إلاّ عند تموضعها في سياق تركيبيّ ، فحينئذ تُفسَّر في إطار بنية النّص أو في بنية السياق المقاميّ .
وبالتّالي فالإحالة الخارجيّة علاقة موجودةٌ بين نصٍّ أو بعض عناصره وبين السّياق الخارجيّ ؛ وهذا يُوجِّه إلى أنّ النّص يُفسَّر بإشارات ومعان قائمة بالخارج وتُعدّ هذه الإشارات منه بمنزلة الأسباب الّتي أوجدته ؛ لذا إذا فُهِمَت هذه الأسباب الخارجيّة زال إشكال الإبهام وحصل بالتّالي فهم دلالة النّص بواسطة هذه الإحالة الخارجيّة . ومن أمثلة هذه الإحالة ما نقف عليه عند قوله تعالى:
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ( ).
في هذا الجزء من السّورة الكريمة عنصرٌ إشاريٌّ محوريٌّ هو (المؤمنون) وردت بعده مجموعة من العناصر الإحاليّة ممثَّلة في الضّمائر: هم (المُتكرِّرة) وواو الجماعة (المُتكرِّرة) ثمّ يقع تجاوز الدّلالة عن هذه البنية بالإحالة إلى بنية أخرى بُنِيَ توجيه الإحالة فيها الإحالة إلى خارج النّص اللّغويّ ؛ هي الإحالة إلى ذات الله عزّ وجلّ.
فالمستوى الخارجيّ للإحالة يقوم على وجود ذات المخاطِب خارج النّص وتتوفَّر فيه إحالة على خارج اللّغة.
إنّ ارتباط العناصر الإحاليّة بالعناصر الإشاريّة يجعلها تفيد ولا تعني فهي غير ذات معنى خارج سياق ورودها ، فوظيفتها الدّلاليّة رهينة بتسيّيقها ؛ فإذا علقت بمفسّر مقاميّ تغدو عندئذ الإحالة خارجيّة ) exophoric reference ( تؤوّل عبرها العناصر الإحاليّة من منظور وسيط تداوليّ .
يذكر إبراهيم الفقي عن مصطلح ) الإحالة الخارجيّة exophoric reference ( أنّه يشير إلى « الأنماط اللّغويّة الّتي تشير إلى الموقف الخارجيّ عن اللّغة extralinguistic situation ، غير أنّ هذا الموقف يشارك الأقوال اللّغويّة. ومن أمثلة تلك الأنماط المشيرة إلى ماهو خارج النّصّ that , there , him،ومصطلح المرجعيّة الخارجيّة ، يقابل بمصطلح المرجعيّة الدّاخليّة endophoric reference «( ) ؛ فالوحدات اللّسانيّة لأيّ لغة طبيعيّة ليست مجرّد سلسلة من صنع الكلمات ، فهناك مكوّنات غير لغويّة تفرض نفسها دائما أثناء الإنجاز على مكوّنات لغويّة في كلّ بنية تواصليّة محكيّة كانت أم مكتوبة ؛ وبذلك يستلزم فهم الإحالة خارج بنية النّص اعتبار المميّزات غير اللّسانيّة في تحديد معناها وإدراك كنهها وفكّ شفرة قطبيها ) الإشاريّ والإحاليّ ( ، والوقوف « على معرفة سياق الحال أو الأحداث والمواقف الّتي تحيط بالنّص ، حتّى يمكن معرفة المحال إليه من بين الأشياء والملابسات المحيطة بالنّص «( ) .
إنّ النّاظر إلى الإحالة الخارجيّة ) exophoric reference ( وصفا وتفسيرا ، ينتهي إلى التّأكيد على الدّور الحاسم الّذي تؤدّيه المتغيّرات المقاميّة الّتي تكتنف البنية اللّسانيّة واستعمالاتها ؛ فالمعاني المعجميّة والصّرفيّة والتّركيبيّة ليست كلّ شيء في إدراك مقصديّة المتكلّم ؛ فثمّة عناصر غير لسانيّة ذات أهمّية كبرى في ضبط معنى بعض العناصر المرتبطة بالسّياق التّداوليّ أثناء توظيفها في سياق تواصليّ ؛ لأنّ الإشارة اللّسانيّة بموجب التّداوليّة كما يذكر فرنسواز أرمينكو « تعيش من خلال الاستعمال«( ) ، وبالتّالي تكون العناصر الإشاريّة المتعلّقة بالعنصر الإحاليّ هي « المعرفة المفترضة الّتي تسمح لنا بالإتيان بمعلومات إضافيّة تخصّه«( ) .
ويذكر الأزهر الزّنّاد في حدّه للإحالة المقاميّة إلى ما هو خارج اللّغة بأنّها « إحالة عنصر لغويّ على عنصر إشاريّ غير لغويّ موجود في المقام الخارجيّ...ويمكن أن يشير عنصر لغويّ إلى المقام ذاته ، في تفاصيله أو مجملا إذ يمثّل كائنا أو مرجعا موجودا مستقلاّ بنفسه«( ) كأن يحيل ضمير المتكلّم "أنا" على ذات صاحبه ، ونحو قول القائل في جملة معزولة عن سياقها :
- هو قال ذلك .
فالمتلقي لهذه الجملة تصادفه عناصر إحاليّة تحيل إلى ما هو خارج البنية اللّسانيّة ، ممّا يزيد من غموضها واستغلاق دلالتها؛ فمن القائل ؟ وماذا قال ؟ كما ينبغي معرفة ما حدث قبل القول ، فيجب معرفة الأشياء المحال إليها في مكان ما خارج البنية اللّسانيّة بسبب ارتباط العناصر الإحاليّة بسياق الموقف التّداوليّ الّذي تُفَسَّر في ضوئه تلك العناصر الإحاليّة.
ويتّضح من الإحالة الخارجيّة ) exophoric reference (« أنّ ثمّة تفاعلا متبادلا بين اللّغة والموقف ، فالموقف يؤثّر بقوّة في استعمال طرق الإجراء«( ) ، ويضيف قائلا : « وتعتمد الإحالة لغير مذكور في الأساس على سياق الموقف context ...وإذا كان معنى مفهوم ما هو موقعه في عالم النّص فإنّ معنى المرجع في الإحالة لغير مذكور exophora هو مكانه في عالم النّص مع التّركيز على عالم الموقف الاتّصاليّ«( ) ، كما أوضحنا في المثال السّابق ؛ فـ « بدون السّياق نقف عاجزين أمام تفسير ما يقال«( ) .
2 ( - الإحالة اللّغويّة الدّاخليّة ) endophoric reference (:
تعني الإحالة الدّاخليّة في أدبيات الدّراسات النّصيّة الحديثة العلاقات الإحاليّة داخل النّص بحيث ترتبط العناصر الإحاليّة بالعناصر الإشاريّة النّصيّة أثناء تسيّيقها في التّركيب اللّغويّ ؛ وبذلك فهي « إحالة على العناصر اللّغويّة الواردة في الملفوظ ، سابقة أو لاحقة ؛ فهي نصيّة«( ) .
والإحالة الدّاخليّة كما يرى إبراهيم الفقي « هو مصطلح استخدمه بعض اللّغويّين للإشارة إلى علاقات التّماسك الّتي تساعد على تحديد تركيب النّص...وتقسّم إلى anaphora و cataphora «( ) .
وبناء على ذلك نعالج الإحالة الداخليّة ) endophoric reference ( بدراسة نوعيها وهما :
أ ( - الإحالة الدّاخليّة القبليّة ) anaphora (:
يعرّفها إبراهيم الفقي بقوله : هي « استعمال كلمة أو عبارة تشير إلى كلمة أخرى أو عبارة أخرى سابقة في النّص أو المحادثة «( ) ، ويضيف عن وظائفها قائلا : « هي الإشارة إلى ما سبق من ناحية ، والتّعويض عنه بالضّمير أو بالتّكرار أو بالتّوابع أو بالحذف من ناحية أخرى ، ومن ثمّ الإسهام في تحقيق التّماسك النّصيّ من ناحية أخرى ثالثة «( ) ، وأمّا الأزهر الزّنّاد فيعتبرها « إحالة بالعودة ) anaphora ( وهي تعود على "مفسِّر" (antecedent) سبق التّلفّظ به«( ) ، وحسب سعيد بحيري فإنّ الإحالة القبليّة anaphora إلى سابق أو متقدّم تتمّ « حين تحيل صيغة الإحالة إلى عنصر لغويّ متقدّم ، وقيل : إنّها إحالة بالعودة ؛ حيث تعود إلى "مفسِّر" أو عائد (antecedent) سبق التّلفّظ به ، ومنها يجري تعويض لفظ المفسِّر الّذي كان من المفروض أن يظهر حيث يرد المُضمَرُ«( ) ؛ فالمفسِّر أو العنصر الإشاريّ يُشار إليه أوّلاً ثمّ يُعاد ذكره في صورة بنية مُضمَرة تحيل إليه وتعوِّضه ؛ وبذلك يأتي الضّمير « بعد مرجعه في النّص السّطحيّ «( ) . كما اعتبر إلهام أبو غزالة الإحالة القبليّة بأنّها « الإشارة اللاّحقة ؛ أي استعمال شكل بديل لاحق لتعبير يشاركه في المدلول«( ) .
وهكذا فالإحالة القبليّة تعني إحالة عناصر لسانيّة واردة في الملفوظ ذات سمة إحاليّة إلى عنصر إشاريّ ، سبق التّلفّظ به سابقا عليها ، بحيث تعوِّضه وتختصره وتتّجه إليه بالإحالة فترتبط به شكلاً ودلالةً ، بيد أنّه يُشترط أن تتّفق معه في الخصائص الدّلاليّة .
ولتوضيح ما سبق ذكره نورد الأمثلة التّالية :
قال تعالى : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ، قََيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ، مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ، وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ، مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ ( ) .
نلاحظ في بداية الآيات ورود المسند إليه " اللّه " كعنصر إشاريّ يفسّر كلّ المحيلات اللاّحقة عليه ؛ كما هو مبيّن في الشّكل : (الشّكل رقم02) . الّذي
أنزل ) هو (
اللّه عبده ) الهاء (
عنصر إشاريّ يجعل ) هو (
) مفسِّر( عناصر إحاليّة )الضّمائر(
إحالة داحليّة قبليّة anaphoric reference
وكلّ هذه الضّمائر تحيل إحالة داخليّة قبليّة إلى العنصر الإشاريّ الّذي يفسّرها ويحدّد معناها وهو "اللّه" ، ولفظ الجلالة (اللّه) المتكرّر في صورة ضمائر )متّصلة ومستترة وموصولة( والّتي تسهر على حضوره واستمراره على امتداد طول النّص القرآني لم يرد في موضع الحاجة إليه بل عوّضته واختصرته الضّمائرُ العائدةُ إليه بعد امتصاصها لخصائصه الدّلاليّة ؛ ممّا يجعلها مرتبطة به شكلاً ودلالةً.
ب ( - الإحالة الدّاخليّة البعديّة ) cataphora (:
يعرّفها إبراهيم الفقي بقوله : هي « استعمال كلمة أو عبارة تشير إلى كلمة أخرى سوف تستعمل لاحقا في النّص أو المحادثة«( ) ، ويحدّها إلهام أبو غزالة بأنّها «استعمال الشّكل البديل الّذي يسبق التّعبير المشارِك في المدلول«( )، كما حدّها روبرت دي بوجراند بأنّها « نوع من الإحالة المشتركة يأتي فيه الضّمير قبل مرجعه في النّص السّطحيّ «( ) ، ولا يبعُد عن هذا التّحديد لمفهوم الإحالة البعديّة كافّة علماء النّص ؛ فجلّهم يتّفقون من حيث المبدأ الّذي يقوم عليه هذا النّوع من الإحالة وهو تقدّم العنصر الإحاليّ على مُفَسِّره . يقول سعيد بحيري بأنّ الإحالة إلى لاحق أو متأخّر cataphora تتمّ « حين يحيل عنصر لغويّ أو مكوّن ما إلى عنصر آخر تال له في النّص أو مكوّنات من عدّة عناصر متأخّرة عن عنصر الإحالة ، وقيل هي تعود على عنصر إشاريّ مذكور بعدها في النّص ولاحق عليها«( ) ؛ فالعنصر الإشاريّ يذكر بعد العنصر الإحاليّ ويأتي لاحقا عليه .
فالإحالة البعديّة أو اللاّحقة إذن تعني ورود العنصر الإحاليّ قبل مرجعه ومُفَسِّره الّذي يعود عليه ويحيل إليه ، وهي عكس الإحالة القبليّة anaphora ، وسنوضّحها في الأمثلة التّالية :
قال تعالى :قُُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( )
في هذه الآية الكريمة ورد العنصر الإحاليّ المتمثّل في ضمير الشّأن "هو" قبل مرجعه ، وقد فسّر إبهامه وغموضه ما تلاه وهو العنصر الإشاريّ "اللّه أحد" ؛ ولذلك فإحالة ضمير الشّأن "هو" في الآية إحالة داخليّة بعديّة أو لاحقة cataphora .
قال تعالى :مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ( ) .
وقال تعالى : يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ( ) .
وقال تعالى :وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ( ).
نلاحظ في الآيات الثّلاث السّابقة ورود العنصر الإحاليّ المتمثّل في ضمير الشّأن قبل مرجعه حيث أدّى وظيفة الإحالة البعديّة إلى مفسِّر متأخّر .
وفي سياق التّمثيل للإحالة البعديّة نأتي بمثالين مزيدا من التّوضيح ؛ فأمّا الأوّل فقول أبي العلاء المعري (الخفيف):
تَعِبٌ كُلُّهَا الحَيَاةُ فَمَا أَعجَبُ إِلاَّ مِن رَاغِبٍ فِي ازدِيَادِ
إنّ ضمير"الهاء" في الشّطر الأوّل "كلّها" يحيل إحالة داخليّة بعديّة إلى كلمة "الحياة" ؛ وهذا الأخير بمثابة العنصر الإشاريّ أو مفسِّر الضّمير .
وأمّا المثال الثّاني يتمثّل في القطعة النثريّة التّاليّة :
« ترك وجهه يغتسل بنسيم الفجر ، لكن روحه لم تنتعش ، تريّثَ قبل أن ينحدر في الأرض المسوّاة الممتدّة وراءها غابات النّخيل ، ووراء ذلك النّخل يلوح هنا وهنا بين فرجات الشّجر ، المنظر ، كان محيميد يراه آخر مرة... «( ).
ففي هذه العبارة أُضمر المسند إليه في الفعل "ترك" منذ البداية ، ثمّ فُسِّر بعد ذلك بالعنصر الإشاريّ وهو اسم العلم "محيميد"، وتلكم إحالة داخليّة بعديّة cataphora .
رابعًا:التّماسك الضّميري عند علماء العربيّة القدامى.
أشرنا آنفا إلى إدراك علماء العربيّة القدامى الإحالةَ الضّميريّة ودورَها في تماسك الكلام وانسجامه ، ونعود الآن لنعرض بشيء من التّفصيل آراءهم من خلال تحليلاتهم ومدارساتهم للنّص القرآني والنّصوص الشّعريّة ؛ وهذا ما اضطلع به النّحاة والمفسّرون والشّرّاح والنّقّاد وغيرهم ، وتحدّثوا عن الدّور الحاسم الّذي تؤدّيه الضّمائر في شدّ البنى النّصيّة الصّغرى المتفرّعة عن البنية النّصيّة الكبرى ووصلها بها في نصّ ما حيث تنسج الضّمائر خيوطا على امتداد الفضاء النّصيّ ضامنة استمراريّة خطّية الكلام على المستوى التّراكبي مختصرة العناصر الإشاريّة بتعويضها وامتصاصها .
وبناء على ذلك ينبغي الآن الوقوف عند تحليلات علمائنا القدامى لتبيان دور التّماسك الضّميري شكليّا كان أم دلاليّا على مستوى جملة واحدة أو أكثر ، وقبل ذلك نشير في هذا السّياق إلى أنّ الضّمائر « تكتسب أهميتها بصفتها نائبة عن الأسماء والأفعال والعبارات والجمل المتتالية..ولا تقف أهمّيتها عند هذا الحدّ ، بل تتعدّاه إلى كونها تربط بين أجزاء النّص المختلفة ، شكلا ودلالة ، داخليّا " endophoric " وخارجيّا " exophoric " ، وسابقة " anaphoric " ولاحقة " cataphoric " « ( ) .
ومادام للضّمائر هذه المرونة البالغة الأهمّية في التّعويض عن الأسماء تارة ، والنّيابة عن الأفعال والعبارات تارة ، وحلولها محلّ نصوص لها من الطّول ما للكوميديا الإلهيّة تارة أخرى.. وهكذا دواليك ؛ كان لابدّ من مساءلة علمائنا القدامى آراءَهم حول ما إذا كان للضّمائر دور فعّال في تحقيق التّرابط النّصيّ أم لا ؟ وما إذا كان هذا الدّور على مستوى جملة واحدة أو أكثر ؟ وهل أدرك هؤلاء الإحالة الضّميريّة : الدّاخليّة والخارجيّة، القبليّة والبعديّة ؟ وهل وعوا ذلك ؟ فإن كان الأمر كذلك فيم يتمثّل ؟ ، تلك الأسئلة وغيرها نجيب عنها في ثنايا هذه المحاضرة من خلال تحليلنا لآراء القدامى ونظراتهم .
بادئ ذي بدء نشير إلى بعض أسماء علمائنا الّذين سنعرض لآرائهم بالتقصّي والتّحليل وهم : سيبويه ) ت180هـ( ، الفرّاء )207هـ( ، عبد القاهر الجرجاني )ت471هـ( ، الزّمخشري )ت538هـ( ، العكبري )ت616هـ( القرطبي )ت671هـ( ، الرّضي )ت686هـ( ، ابن هشام )ت761هـ( والسّيوطي ) ت911هـ( ، وغيرهم كثيرون.
وانطلاقا من ذلك نحاول في مايلي أن نأخذ نماذج للنّحاة والمفسّرين وشرّاح الشّعر ونقّاده مدلّلين على نضج نظريّة الإحالة عند هؤلاء القدامى في إيجاز ، لأنّ المقام ليس مقام تفصيل وإنّما هو مقام تأصيل وتأثيل .
أ)_ سيبويه )180هـ( : يأتي سيبويه من بين علماء العربيّة الأفذاذ في الصّدارة حين أشار إلى الدّور الّذي تؤدّيه المعوِّضات أو الأسماء المُبهَمة الّتي تمتلك سمة الإحالة وتفتقر في المقابل إلى مرجع يُفسِّرها ، يشير سيبويه إلى الإحالة النّصيّة اللاّحقة قائلا :« فأمّا المبني على الأسماء المُبهَمة فقولك : " هذا عبد اللّه منطلقا " ..فـ " هذا " اسم مبتدأ ليُبنَى عليه ما بعده وهو " عبد اللّه " ولم يكن ليكون هذا كلاما حتّى يُبنَى عليه أو يُبنَى على ما قبله... «( ) ؛ وبذلك شرح قضية التّماسك الشّكليّ والدّلاليّ ، كما يمضي في وضع اللّبنات الأولى لتشيّيد صرح نظرية الإحالة منذ القرن الثّاني الهجري حيث يشرحها بقوله : « بدؤوا بالإضمار لأنّهم شرطوا التّفسير وذلك نووا ..
ومثل ذلك " ربّه رجلا " .." نعم رجلا " ..
ولا يجوز لك أن تقول : " نعم " ولا " ربّه " وتسكت ، لأنّهم إنّما بدؤوا بالإضمار على شريطة التّفسير ، وإنّما هو إضمار مُقدَّم قبل الاسم ، والإضمار الّذي يجوز عليه السّكوت نحو : " زيد ضربته " إنّما أضمر بعدما ذكر الاسم مظهرا فالّذي تقدّم من الإضمار لازم له التّفسير حتّى يبيّنه..
وممّا يُضمَر لأنّه يفسِّره ما بعده ، ولا يكون في موضعه مظهر قول العرب : " إنّه كرام قومك "..فالهاء إضمار الحديث الّذي ذكرت بعد الهاء... «( ).
بناء على ما جاء به سيبويه في نصوصه الّتي أوردناها حتّى الآن عن الضّمير ومفسِّره والموضع الّذي يشغله كلٌّ منهما في الكلام ندرك مدى سبقه لعلماء النّص المحدثين في صياغة نظريّة للإحالة الضّميريّة وإن على مستوى الجملة ؛ فإمّا أن يرد المُفسِّر أو ما اصطلح على تسميّته عند علماء النّص المحدثين بـ "العنصر الإشاري" قبل الضّمير أو المُعَوِّض الّذي يفتقر إلى مرجع يفسِّره ويُزيل إبهامه وغموضه ؛ وبذلك تكون الإحالة قبليّة أو سابقة "anaphoric reference " ، وإمّا أن يتخلّف المفسِّر عن الضّمير ويأتي لاحقا عليه فحينئذ تكون الإحالة بعديّة أو لاحقة " cataphoric reference "، بيد أنّ هذه الضّوابط والشّروط المتعلّقة باتّجاه الإحالة تعمل في الجملة كما تعمل أيضا في النّص ، وما قاله سيبويه عن الإحالة الضّميريّة على مستوى الجملة يمكن أن ينسحب على النّص .
ب)_ الفرّاء )ت207هـ( : أمّا الفرّاء فنجده يتحدّث عن مرجعيّة الضّمير أو الإحالة الضّميريّة على امتداد النّص ، يقول معلّقا على قوله تعالى :يَأْتِيكُم بِه( ) قائلا : « يقال : إنّ الهاء الّتي في )به( كناية عن الهدى«( ) ؛ فإذا اطّلعنا على سورة الأنعام نجد كلمة " الهدى " قد ذكرت في الآية )35( من السّورة نفسها ثمّ ذكر الضّمير )الهاء( الّذي يحيل إلى الهدى عبر عشر آيات في قوله تعالى :وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ( ).
إنّ إرجاع الفرّاء العنصر الإحالي إلى مرجعه المُفَسِّر له لم يكن اعتباطيّا ؛ فقد استند إلى دلالة الآيات السّابقة كلّها حتّى إذا ما عثر على العنصر الإشاريّ المطابِق في سماته الدّلاليّة للضّمير أو العنصر الإحالي فسَّره به ، وتلك الإحالة كما نرى من خلال تحليل الفرّاء إحالة نصيّة سابقة "anaphoric reference ".
أمّا عن الإحالة المقاميّة " exophoric reference " الّتي لا يمكن عبرها تفسير العناصر الإحاليّة إلاّ بالرّجوع إلى السّياق الخارجيّ حيث اعتمد علماؤنا القدامى في مدارستهم النّص القرآني وتفسيره في ضوء العودة إلى السّياق المتمثّل في أسباب النّزول كلّما اقتضت الضّرورة ذلك بسبب اللّبس والغموض اللّذان يلفّان معاني الآيات لاحتوائها أحيانا على بعض الضّمائر الّتي تحيل إلى عناصر إشاريّة غير مذكورة في النّص ؛ فينبغي أن يبحث مُفَسِّر النّص القرآني ومُؤَوِّلُه عن مراجعها في السّياق ، وربطها بعناصرها الإحاليّة . يقول الفرّاء )ت207هـ( في تعليقه على قوله تعالى :وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ( ) قائلا: « المقسمون : الكفّار ، سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يأتيهم بالآية الّتي نزلت في الشّعراءإِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ( ) ، فسألوا رسول اللّه أن ينزلها عليهم حتّى يؤمنوا ، فأنزل اللّه تبارك وتعالى : قل للّذين آمنوا وَمَا يُشعِرِكُم أَنَّهَا إِذَا جَاءَت لاَ يُؤمِنُون..«( ).
يبدو من خلال عرضنا لتعليق الفرّاء اعتماده على السّياق الخارجيّ في بحثه عن العنصر الإشاري الكامن في الحقل الإشاريّ الخارجيّ والمُفَسِّر للضّمير والمُعيِّن لدلالته ، كما يظهر من تعليقه إدراكه لوظيفة السّياق المقامي عبر أسباب النّزول ومناسباتها الّتي برز دورها التّفسيري أن ضبطت الوسيط المقاميّ ففكّت شفرة العنصر الإحاليّ ، ولولا استناد الفرّاء إلى المقام الخارجيّ لما زال اللّبس الّذي سيقع فيه القارئ لا محالة ؛ وبذلك يكون الفرّاء وغيره من علماء العربيّة ممّن عكفوا على النّص القرآني -دراسة وتحليلا ، تفسيرا وتأويلا قد سبقوا علماء النّص المحدثين عندما أكّدوا على دور السّياق في تحديد دلالات بعض العناصر الإحاليّة وهو ما يعرف لديهم بـ " الإحالة الخارجيّة أو المقاميّةexophoric reference " .
وانطلاقا من ذلك يزداد إدراكنا لدور الضّمائر في الرّبط والإحالة والتّماسك شكليّا ودلاليّا ؛ فأهمّيتها لا تتوقّف كونها نائبة أو معوِّضة عن الأسماء أو الأفعال أو العبارات ، بل يقتضي وجودها ربط الكلم بعضه ببعض « حيث لا نظم في الكلم ولا ترتيب حتّى يعلق بعضها ببعض ، ويُبنى بعضُها على بعض ، ويجعل هذه بسب من تلك«( ) ؛ فالضّمائر تُعدّ من أنظمة الرّصف الشّكلي والدّلاليّ في العربيّة ، بل يكاد لا يخلو أيُّ نصّ منها مهما كان قصيرا أو طويلا، ومن هنا اكتست أهمّيتها لأنّ الإنسان يحسّ بصعوبة عندما يعكف على ذكر تفاصيل الأشياء الّتي يتحدّث عنها ، أو يعيد ما سبق له أن ذكره في مقام آخر ؛ فلاجتناب الحشو أو الملل والاقتصاد في الجهد والوقت يلجأ الباثّ )المتكلّم أو الكاتب( إلى توظيف ما دأب النّصيّون على تسميّته بـ "المُعَوِّضات" ، بل إنّ ورودها أو تقديرها أحيانا يكون إجباريّا لفهم النّص .
ج)_ عبد القاهر الجرجاني )ت471هـ( : يقول عبد القاهر الجرجاني في تعليقه على قوله تعالى :قُل ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى( ): إنّه مَن نظر إلى هذه الآية و « لم يعلم أن ليس المعنى في " أدعوا " الدّعاء ، ولكنّ الذّكر بالاسم...وأنّ في الكلام محذوفا وأنّ التّقدير : قل أدعوه اللّه ، أو أدعوه الّرحمن..كان بعرض أن يقع في الشّرك من حيث أنّه إن جرى في خاطره أنّ الكلام على ظاهره ، خرج ذلك به ، والعياذ باللّه تعالى ، إلى إثبات مدعوَّين ، تعالى اللّه عن أن يكون له شريك«( ) ؛ فالتّقدير الّذي جاء به عبد القاهر الجرجاني للضّمير المحذوف )أدعوه( أزال الغموض وفكّ اللّبس المؤدّي إلى الشّرك باللّه ، وقد أثبت بتقديره للضّمير وحدانية المدعوّ وهو كما يلي : (الشّكل رقم03)
اللّه
أدعوه )الهاء ( الرّحمن
الضّمير المفسّر
) العنصر الإحاليّ ( )العنصر الإشاريّ (
محمد بن زعبار- عضو مبدع
- عدد الرسائل : 1062
نقاط : 2133
تاريخ التسجيل : 02/11/2008
مواضيع مماثلة
» نحو نظريـــة عربية للإحالة الضميرية ( دراسة تأصيلية تداولية ) ـ الهوامش والاحالات ـ
» نحو نظرية عربية للإحالة الضميرية _ الجزء الثاني .
» أهمية دراسة التاريخ
» الطفل العنيد دراسة وعلاج
» الطفل العنيد دراسة وعلاج
» نحو نظرية عربية للإحالة الضميرية _ الجزء الثاني .
» أهمية دراسة التاريخ
» الطفل العنيد دراسة وعلاج
» الطفل العنيد دراسة وعلاج
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الجمعة أبريل 12, 2024 4:10 pm من طرف سعداوي ربيع
» المتألقه ياسمين ابراهيم
الثلاثاء أكتوبر 10, 2023 8:54 pm من طرف سعداوي ربيع
» إستمتع بخدمة ultimate game pass لجهاز الإكسبوكس و الحاسوب
الخميس نوفمبر 24, 2022 10:35 pm من طرف lmandoo
» ربيع المؤمـــــــــــــــــــن
الثلاثاء نوفمبر 08, 2022 8:11 am من طرف سعداوي ربيع
» مشروع واحة الشاطيء شقق للبيع في مدينة دبي للاستديوهات
الخميس نوفمبر 03, 2022 9:21 pm من طرف lmandoo
» شركة حلول ميج للاستشارات وتطوير الأعمال
الثلاثاء أكتوبر 18, 2022 11:26 am من طرف lmandoo
» نانا اليوم اقوى الخصومات على كل المنتجات
الأربعاء أكتوبر 12, 2022 11:28 pm من طرف lmandoo
» مرام مالك فنانة غنائية سعودية
الإثنين سبتمبر 05, 2022 5:12 am من طرف lmandoo
» موقع تعليمي سعودي لتغطية كافة المناهج
الخميس أغسطس 25, 2022 11:44 pm من طرف lmandoo
» يونيريم للرعاية المنزلية UNIREM Home Care
الأربعاء أغسطس 17, 2022 3:49 am من طرف lmandoo
» ايه افضل بيوتى صالون فى حدئق الاهرام واكتوبر وزايد
السبت أغسطس 13, 2022 3:57 am من طرف lmandoo
» اشطر جراح عام دكتور عبد الوهاب رأفت
السبت أغسطس 13, 2022 2:21 am من طرف lmandoo
» اشطر جراح عام دكتور عبد الوهاب رأفت
الثلاثاء أغسطس 09, 2022 1:47 am من طرف lmandoo
» ايه افضل بيوتى صالون فى حدئق الاهرام واكتوبر وزايد
الثلاثاء أغسطس 09, 2022 1:37 am من طرف lmandoo
» مصممة الازياء رنا سمعان من نينوى العراق إلى العالمية
الإثنين أغسطس 08, 2022 3:45 am من طرف lmandoo