مـــــــــــــــــــــواعظ
من فضل الله على عباده تتابع مواسم الخيرات ومضاعفة الحسنات فالمؤمن يتقلب في ساعات عمره بين أنواع العبادات والقربات فلا يمضي من عمره ساعة إلا ولله فيها وظيفة من وظائف الطاعات وما أن يفرغ من عبادة إلا ويشرع في عبادة أخرى ولم يجعل الله حدا لطاعة العبد إلا انتهاء عمره وانقضاء أجله.
وبعد ان اتم الله لنا نعمة اكمال شهر الصيام والقيام ورتب عليه عظيم الأجر والثواب صيام ست أيام من شوال التي ثبت في فضائلها العديد من الأحاديث منها ما رواه الإمام مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال : ( من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر
المواضيع الأخيرة
بطاقات اسلامية
أدعية رمضانــــــــــية
رمز الأوراس في الشعر الجزائري المعاصر من منظور دلالي ـــ عبد الحميد هيمة/ الجزائر
صفحة 1 من اصل 1
رمز الأوراس في الشعر الجزائري المعاصر من منظور دلالي ـــ عبد الحميد هيمة/ الجزائر
رمز الأوراس في الشعر الجزائري المعاصر من منظور دلالي ـــ عبد الحميد هيمة/ الجزائر
يعرف أدونيس الرمز بأنه: "اللغة التي تبدأ حين تنتهي لغة القصيدة، أو هي القصيدة التي تتكون في وعيك بعد قراءة القصيدة، إنه البرق الذي يتيح للوعي أن يستشف علماً لا حدود له"(1).
وعلى هذا الأساس فالرمز حين لا ينقلنا بعيداً عن حدود القصيدة ونصها المباشر لا يمكن القول بأنه رمز، الرمز معنى خفي، إيحاء وامتلاء.
وقد مجد شعراء الغرب الرمز، وعلى رأسهم (بودلير) الذي يرى أن "كل ما في الكون رمز، وكل ما يقع في متناول الحواس رمز يستمد قيمته من ملاحظة الفنان لما بين معطيات الحواس المختلفة من علامات"(2).
هذا فضلاً عن أن الرمز يعد "أفضل صيغة ممكنة للتعبير عن حقيقة مجهولة نسبياً، ولا يمكن أن توضح أكثر من ذلك بأية وسيلة أخرى"(3)، وقد أدرك الشاعر الجزائري المعاصر منذ مطلع السبعينيات ما في الرمز من امتلاء، فراح ينهل منه، مما أثرى تجاربه وأمدها بالخصوبة والتنوع، وقد اتخذ هؤلاء الشعراء لأنفسهم رموزاً خاصة فنجد لكل شاعر رموزه التي يستقيها من الوقائع والأحداث المعاصرة ويرتفع بها إلى مستوى الوقائع الإنسانية العامة.
ومن خلال قراءتنا لهذه الرموز نجدها تنقسم إلى:
أولاً: رموز ترتبط ببعض الأماكن ذات المدلول النفسي الخاص مثل: "الأوراس، المدينة، القرية، السجن، المنفى، ... الخ".
ثانياً: رموز مستمدة من الطبيعة مثل: "النهار، الظلام، الليل، النور، النار، الريح، الخريف، الزنابق، العصافير، الصفصاف، .. الخ".
ثالثاً: رموز مستمدة من القرآن الكريم مثل: "موسى، عيسى، أيوب، ...".
رابعاً: رموز مستمدة من التراث العربي مثل: "أبو ذر الغفاري، الشنفرى، عنتر، ليلى، خالد، هند، .. الخ".
ويستوقفنا رمز "الأوراس" الذي يشغل حيزاً كبيراً في المتن الشعري الجزائري، وليس ذلك بالشيء الغريب فقد تغنى الناس بالثورة وبجبال الأوراس التي انطلقت منها الثورة فحق للشعراء إذاً أن يكونوا السباقين للإشادة بالأوراس معقل الثورة وأن يتغنوا بمآثره وأمجاده، بكبريائه وصموده، بشموخه وعظمته، خاصة وأنهم أكثر الناس إحساساً وأكثرهم قدرة على التعبير عن المشاعر والأحاسيس، وإن تباينت المواقف واختلفت الرؤى من شاعر إلى آخر.
وعلى العموم فإننا نقول إن "الأوراس" عند الشاعر الجزائري "هو رائحة التراب، أصالة الوطن، تضاريس الواقع الثوري الذي يمتد من أعماق الجرح إلى آهات القصيدة، يتحرك الأوراس في المكان من خلال وعي الشاعر له، ويتحرك في الزمان من خلال وعي الشاعر لذاته"(4)، والمكان الشعري في الحقيقة ليس إطاراً مادياً محدود المعالم إنما هو حركة الذات المبدعة، فالشعر كما نعلم لا يكرر المكان، فيقدم صورة (فوتوغرافية) مطابقة للأصل بل يعمد إلى إلغاء المكان، وإعادة تشكيله، وخلق انفعال الذات المبدعة "من هذا المنظور الجمالي يصبح الأوراس مكاناً لانفتاح الكتابة لممارسة الرؤية، انفجار الدلالة، وبداية الحداثة، بما هي رحلة للكشف عن أبعاد خفية مترسبة في أعماق الرمز، وقاع الحلم وباطن التجربة"(5).
وبتتبع هذا الرمز عبر المتن الشعري الجزائري نلاحظ أنه مر بمراحل: فكان في البداية يحمل دلالة المكان الخارجية التاريخية أي أن "الأوراس" مجرد وعاء لأمجاد وبطولات وملامح سابقة من ذلك قول (عمار بو الدهان).
إنه "الأوراس"
ألقى كل بركان دفين
يتحدى
ظلمات الدهر مرفوع الجبين
يتحدى الموت، والعصر
وآلاف السنين
صامداً كالقمة الشماء
كالصخر المتين(6)
وأول ما يواجهنا في هذا النص تلك النبرة الخطابية التي هي سمة من سمات القصيدة التقليدية، ولذلك يظل الأوراس في هذا النص موضوعاً خارجياً يقيم الشاعر معه علاقات محددة.
للشموخ والعظمة.
-الأوراس رمز التحدي.
الصمود والمواجهة.
وهكذا فكلما ذكر (الأوراس) تبادر إلى الذهن معنى البطولة والتضحية والفداء، ومن هنا نجد الشعراء دائماً يقرنون الأوراس بالبطولة والأبطال وبالجهاد والنضال، وهذا شيء طبيعي فقيمة الأوراس تكمن في معاني البطولة وروعة القتال من أجل المبدأ أو تحرير الأرض والإنسان(7) "ويحافظ الشاعر على حدود العلاقة الثنائية التي يقيمها مع هذا الرمز الحقيقي الذي تذوب فيه العلاقة ذات البعدين أو أكثر في وحدة دلالية احتمالية، تنفجر إيحاء متجدداً، وظلالاً كثيفة"(.
وتظهر صورة الأوراس عند عبد الله حمادي غامضة حزينة يكتنفها جو من الصمت والكآبة، ويمكن أن نحدد ملامح الصورة من خلال النقاط التالية، والتي تشكل على الترتيب المستويات الدلالية لرمز الأوراس.
-دلالة رمز الأوراس
رمز الغضب والرفض والثورة
الأوراس رمز الشرف والأصالة والرجولة
رمز الهوية الوطنية
يقول الشاعر في قصيدة "ما زال يكبر أوراس بذاكرتي":
أوراس ماذا دهاك اليوم محترق
وسافر العشق من عينك والنسب
هل تستحي اليوم إن غامت خواطرك
تحت ضباب، وأشقى زندك الحطب؟
(...) أوراس أبحر...! وأبحر دون ما تعب إن المسافة تطوي حين تصطحب(9).
وصورة الأوراس في هذا النص تبدو صورة مقلوبة- إن صح التعبير بحيث لا نجد تلك المعاني التي عهدناها عند الشعراء حينما يذكرون الأوراس، ويربطونه بالثورة، والمواجهة، والتحدي.
إن حمادي في هذا النص يواسي (الأوراس)، ويحثه على الانتفاضة والثورة، ويدعوه للإبحار في أعماق المدى:
أوراس أبحر..! وأبحر دون ما تعب
إن المسافة تطوى حين تصطخب
غازل بنجمك في الآفاق ملحمة
وأسرج خيولك.. وأهزج أيها العجب
(...) أوراس عجل، ولا تمهل بأغنية
إن الحنين إلى الأوتار ينتحب(10)
وسبب ذلك كما يرى الأخضر عيكوس: "أن الشاعر قد خلع مشاعره النفسية الحزينة على هذا الرمز فصار (الأوراس) غاضباً حزيناً ولكن الواقع أن الحزين الغاضب هو الشاعر نفسه"(11)، ولذلك يبدو عليه الإحساس بالمرارة وهو يخاطب (الأوراس) الأشم على خلاف الشاعر محمد بن رقطان وغيره من الشعراء الذين ألهمتهم ذكرى ثورة التحرير العظمى، فكتبوا فيها شعراً عظيماً عظمة هذه الثورة، فهي في شعر محمد بن رقطان قبس من الضياء كان له فعل السحر في إعادة صياغة الحياة بكل أبعادها، ومنارة تهتدي بها الأجيال وتستلهم منها عناصر القوة والمنعة لمواجهة المستقبل يقول الشاعر:
قبس من ضياء نوفمبر الخلد
صاغ الحياة صوغاً جديدا
ويسقى على الدروب منارا
ودليل الخطى لئلا نحيدا(12)
وإذا عدنا إلى حمادي وبحثنا عن سبب الغضب النفسي الذي بدا في صورته أدركنا "أن الشاعر يطالب بأن تتجسد صورة نوفمبر تجسيداً فعلياً"(13) ونعني بذلك تحقيق أحلام الشهداء، وقيمهم ومبادئهم التي ضحوا من أجلها بمهجهم الغالية، ولكن الشاعر يصاب بالخيبة لأنه لا يجد شيئاً من ذلك في واقعه فيستغيث ويستنجد (بالأوراس) قبلة الثورة والثوار ويلتقي الشاعر (عياش يحياوي) مع الدكتور عبد الله حمادي في استخدام رمز (الأوراس) بالدلالة السابقة:
شاخ سيف الجهاد يا نخوة الأوراس
في موطن بصير أعور
مزقتها أشعة الرحلة الأوهام
لا حياة تعز حين الخواء المر
يرغي به الضباب الأحمر
لا حياة يا واحة الفجر تغري
حين وجه الهوان بالعيش يكفر
لا حياة سمرة الخيل تبقى
حين بالذلة السيوف تعفر(14)
هذا النص يبرز لنا بشكل واضح نقاط التقاطع بين هذين الشاعرين حين نجدهما يصدران عن رؤية واحدة، تعمق الشعور بالألم من الواقع المعيش ونحن حينما نقرأ هذه النماذج نشعر في أعماقنا بشعور غريب يهزنا إلى أجواء الأوراس، ويجعلنا نتفاعل ونتأثر بالمواقف البطولية الثورية التي استمدها الشاعران من وهج جبال الأوراس التي تحمل في هذه النصوص دلالة المقاومة والتحدي، وهي تنبع من إحساس ثوري يرفض الواقع الفاسد، ويسعى لتغييره واستبداله بواقع أفضل، وهذا ما يفرق بين الرمز العربي والرمز الغربي الذي نشأ في الأصل هروباً من الواقع إلى الغيب، فكان كما يقول أحمد عبد المعطي حجازي "خلاصاً فردياً يحقق به الشاعر الأوربي راحته النفسية"(15).
وبين الخلاص الفردي والخلاص الجماعي، فرق شاسع:
انغلاق
الخلاص الفردي غيبة (الخيال)
خدر نفسي
انفتاح
الخلاص الجماعي واقعية
مشاركة في التغيير
(وعي)
والنماذج السابقة تحمل رؤيا (الخلاص الجماعي) فهي تسعى إلى اختراق الواقع وانتشاله من مستنقع الحياة الراكدة، والدفع به إلى الأمام مستمدة من رمز (الأوراس) أبعاداً دلالية جديدة منها:
ربط الماضي بالحاضر
الأوراس الثورة
التمرد على الواقع
المستقبل الزاهر
وفي ظل هذا الخضم من التناقضات بين (الماضي، الحاضر) تبدو لنا بعض التجارب أكثر تفاؤلية يبدو فيها (الأوراس) شامخاً ويظل ملحمة في قلوب الجزائريين يستمدون منه الوهج كلما خفت في نفوسهم نار الثورة والمقاومة:
وأوراس سوف يظل بأعماقنا شامخا
باطل كل ما تدعيه المراثي
وما يكتب الأمراء
ونعشق أن يكتب البحر عنا صحيحا
ولكن أوراس
ملحمة في القلوب يظل(16)
وتتعمق هذه الدلالة إذا قرأنا المتن الشعري الجزائري المعاصر خاصة عند الشعراء الشباب أمثال عز الدين ميهوبي، عبد الكريم قذيفة، أحمد شنة، نور الدين درويش، وغيرهم، وربما يكون عز الدين ميهوبي أكثر هؤلاء الشعراء توظيفاً لهذا الرمز، وأكثرهم استلهاماً للذاكرة الثورية "وهو إذ يستوحي الذاكرة الثورية في كتاباته الشعرية، فإنه يرسمها ويسقطها على فضاء مكاني محدد، اسمه (الأوراس) بحيث الأوراس من عالم الجغرافيا، من مجرد سلسلة جبلية.. ليتمثله "سدرة منتهى" يسافر نحوها خاشعاً طهوراً.. مسربلاً بحرقة الوجد والفناء"(17).
وهكذا يستحيل (الأوراس) إلى رمز صوفي يتوحد معه الشاعر على طريقة الحلاج وغيره من أعلام الوجد الصوفي يقول الشاعر:
متى سأرسم عشقاً أنت منبعه
فأنت أعظم بعد الله يا بلدي!؟
إذا ذكرتك كنت الحلم يا وطني
وكنت تسبح في روحي وفي جسدي
وكنت رحلة عمر بت أسأله
أفي التراب.. يذوب العمر للأبد!(18)
ويبدو الشاعر في هذا النص عاشقاً ولهاناً يكاد يذوب حزناً على الفراق على طريقة العذريين حيناً، ويبدو حنياً آخر صوفياً متهجداً في حضرة المحبوب، وهذا يحيل الصورة الحسية "على عرفانية صوفية تمزج تيار العاطفة وتيار العقل، وتوحي بالجمال متجلياً في طابع جلالي، وبالجلال ظاهراً في طابع جمالي"(19).
وهذا الموقف يذكرنا بذلك الشوق الصوفي المتأجج الذي نجده عند أقطاب الصوفية المشهورين كابن المفوض، وابن عربي، ورابعة العدوية، إنه الشوق الأبدي الذي يدفع إلى الرحلة والسفر نحو أقاصي الذات الإنسانية.
ويزداد الجيشان العاطفي الذي هو من ميزات ديوان "في البدء كان أوراس"، ويتجلى بكيفية ملموسة في هذه الأبيات الموالية، فالشاعر يفنى فناء كلياً في (الأوراس) الذي يغتسل فيه الصباح وتذوب فيه الأنجم من فرط الضياء والصفاء.
أوراس يلتحف الشهيد.. بصخره
وتطير من كف الشهيد الأسهم!
وهناك يغتسل الصباح بنوره
وتذوب من فرط الضياء الأنجم(20)
وهنا يحاول عز الدين ميهوبي كما هي حال الصوفية- تخطي عالم المحسوسات، واعتلاء عوالم الروح بكل تجلياتها، فتحول (الأوراس) إلى روح سامية وكياناً جوهرياً أصيلاً.
ويمثل النص السابق نمطاً رمزياً خاصاً، وهو ما يعرف "بالصورة الرمزية التصاعدية" ونقصد بذلك تحول (الأوراس) من الحيز المادي إلى الحيز الروحي المجرد، بحيث لم يبق من الأوراس أية صفة مادية، فقد غدا رمزاً شعرياً فيه ما في رموز الشعر من إحالة موحدة بين الحسي والمثالي، بين المادي والروحي.
ويرتبط رمز الأوراس في تجارب أخرى بفلسفة الحلم التي اهتم بها الشعراء المعاصرون، كما اهتم بها الرومانسيون في البداية ومنحوها قيمة كبرى، وخاصة على يد الكاتب والفيلسوف الألماني (Hader) إلا أنهم ظلوا يتحركون على سطوح الظاهرة دون الأعماق، التي بلغها الرمزيون الذين استفادوا من تراث الرومانسية ونظريات فرويد في معالجة الحلم الذي غدا عندهم ضرباً من الممارسة الصوفية ومنبعاً للخيال الشعري، وغدا عند بودلير معادلاً للرؤية وأداة لاقتناص الرمز المعقد.
وفي شعرنا الجزائري لاذ الشعراء وعلى رأسهم الشباب "بالحلم بوصفه أداة لعالم مليء بالإمكانات، وأداة لبعث الحياة والتجدد في كل ما تسطح وجمد في الرؤية التقليدية."(21) وعالم اليقظة في هذا السياق- حالة غياب عن الحقيقة، لهذا لا بد من وعي جديد يستطيع احتضان الحقائق، ودمجها في تيار اللاشعور الذي يفصح عن ذاته بالحلم، وهذا الأخير الذي يعد نافذة يطل منها الشاعر على عالمه النفسي في محاولة للخروج من عالم الكآبة والحزن، وهكذا يصبح المكان (الأوراس) مادة في يد الخيال الجامح الذي يتيحه الاستغراق في الحلم، يقول عبد الكريم قذيفة:
أغني..
لهذا الرذاذ الذي ضم القلب هذا المساء
إيه (أوراس) يا مطراً ينعش الغرباء
الطريق طويل.. طويل..
وها أنت بحر الزخم!!(22)
وعندما نقرأ هذا النص ندرك أن ثمة ترابطاً بين الحلم والواقع، فالشاعر يحلم بالأوراس ويتحسر على الواقع "إيه (أوراس)"، لأنه يرغب في تغيير واقعه وتجديده، وبعثه
خلقاً جديداً على الرغم من أن "الطريق
طويل.. طويل"
متعب أن نسافر في الصمت قال:
وجدير بنا أن نجاهد فينا الألم!
خذ يدي إليك
وافترش زندي المتوهج.. خذني إليك
إنني شاعر مثلك الآن يا عشقي
فالتحف ونم!!(23)
وتنتهي الرحلة، وينتهي السفر بالتوحد، وتحقق الآمال في بعث جديد يعيد البسمة للنفوس، ويرجع السعادة للقلوب وهكذا نرى أن:
- الدلالة السطحية المباشرة للنص السابق تدور حول شوق الشاعر وحنينه إلى التوحد مع الآخر.
- أما الدلالة العميقة فتطوي على قيم رمزية بعيدة تشير إلى تلك الغربة التي يعيشها الشاعر، والتي ولدت فيه هذا النزوع القوي إلى (الحلم)، لأنه بالحلم يستمسك طوقاً للنجاة والخلاص من الواقع المأفون.
فالشاعر إذاً بلجوئه إلى الحلم يسعى إلى تغيير واقعه، وإن كنا نحسب أن الشاعر الحقيقي مصدره الحلم، وهذا الواقع الذي نعيشه هو صورة مشوهة للنماذج الخالدة التي يتوصل إليها بطريق الحلم.
فالحلم إذاً كما نرى كان ملجأ كل شاعر نفر من وحشة الحياة وأراد خلقها خلقاً جديداً كما هو شأن أحمد شنة حيث يقول:
أوراس يولد من حطام حروفنا
ويفوح من بصماتنا القرآن
أوراس يخرج بخار مائنا
شجراً يضم صهيله الرحمان
قمراً وتذكاراً وقلباً عاشقاً
أوراس كل صخوره رهبان
أوراس أقبل فالجوانح أقفرت
أقبل فأبطال الهوى غلمان(24)
ويتأزم الموقف في هذا النص، حيث تزداد المشاعر التهاباً وسط إفرازات عصرنا وتناقضات واقعنا فيستنجد الشاعر بـ(الأوراس) "أوراس أقبل فالجوانح أقفرت" وفي هذا دلالة واضحة على أن هذا النص يحمل الكثير من الوعود المحملة بزخم الحاضر وإشراقة المستقبل الذي يأتي مكللاً بالثورة والانتصار:
لا تنكمش بين الجلامد خائفا
وافتح يديك لكي يرى عثمان
من سيفك المكسور تولد ثورة
وتسيخ في خطواتك الصلبان
فخلال دمعك سوف ينبت مولد
وخلال دمعك تركع التيجان
كن سيد الأوثان في خفقاتهم
كن أنت حتى يولد العربان(25)
وهكذا نرى صوت الشاعر المدوي يعلو ويتغلب على الواقع معلناً عن ميلاد الشخصية الخاصة، مغنياً وجدان الوطن الرائع المفقود، وفي هذا انتصار للحلم على الواقع، انتصار للأمل المشرق الذي سينبع من خلال دموع اليأس والإحباط المسيطرين على الواقع.
وهكذا نستطيع أن نرى في ضوء هذا العرض السريع لرمز الأوراس في الشعر الجزائري المعاصر كيف أن هذا الرمز قد تطور من الناحية الجمالية، فبعد أن كان مجرد إطار مكاني للثورة التحريرية تحول إلى رمز يحمل دلالة المواجهة والتصدي للواقع الأليم بالانكسارات، أما في التجارب المعاصرة- شعر الشباب- فقد تطور هذا الرمز في اتجاه نحو الطبيعة المادية الحسية (للأوراس) ليتحول إلى رمز صوفي فيه ما في الرموز الصوفية من دلالات وإيحاءات باطنية في حين لجأ بعض الشعراء إلى الربط بين رمز الأوراس والحلم باعتباره معادلاً موضوعياً لنفسياتهم المفعمة بالسمو والامتلاء.
هوامش الدراسة
(1)-أدونيس، زمن الشعر، دار العودة، بيروت 1972، ص 160.
(2)-فتوح أحمد، الرمز والرمزية في الشعر المعاصر، ط2، دار المعارف، القاهرة، 1978، ص 112.
(3)-مصطفى سويف، الأسس النفسية للإبداع الفني، دار المعارف بمصر 1973، ص 205.
(4)-إبراهيم رماني، أسئلة الكتابة النقدية، ص 104.
(5)-المرجع نفسه، ص 104.
(6)-عمار بودهان، معزوفة الظمأ، ص 39.
(7)-عبد الله ركيبي، الأوراس في الشعر العربي، ش.و.ن.ت، الجزائر 1982، ص 15.
(-إبراهيم رماني، أسئلة الكتابة النقدية، ص 109.
(9)-عبد الله حمادي، تحزب العشق يا ليلى، دار البعث، الجزائر 1982، ص 206.
(10)-المصدر نفسه، ص 206.
(11)-جريدة النصر، ع (01/12/1984).
(12)-محمد بن رقطان، ألحان من بلادي، ص 116.
(13)-جريدة النصر، ع (01/12/1984).
(14)-عياش يحياوي، تأمل في وجه الثورة، ش.و.ن.ت، الجزائر 1983، ص 43.
(15)-ياسين الأيوبي، مذاهب الأدب معالم وانعكاسات، ج2، (الرمزية) بيروت 1982، ص 241.
(16)-محمد زتيلي انهيار مملكة الحوت، ص 16.
(17)-ينظر معجم المصطلحات الصوفية، سعاد الحكيم.
(18)-عز الدين ميهوبي، في البدء... كان أوراس، ص
(19)-عاطف جودت نصر، الرمز الشعري عند الصوفية، ط3، دار الأندلس، بيروت 1983، ص 207.
(20)-عز الدين ميهوبي، في البدء كان أوراس، ص 20.
(21)-عز الدين إسماعيل، الشعر العربي المعاصر، ص 448.
(22)-عبد الكريم قذيفة، لو أنت تدري كم أحبك، ص 17.
(23)-المصدر نفسه، ص 17.
(24)-أحمد شنة، زنابق الحصار، ص 31.
(25)-المصدر نفسه، ص 32
-الجزائر-
يعرف أدونيس الرمز بأنه: "اللغة التي تبدأ حين تنتهي لغة القصيدة، أو هي القصيدة التي تتكون في وعيك بعد قراءة القصيدة، إنه البرق الذي يتيح للوعي أن يستشف علماً لا حدود له"(1).
وعلى هذا الأساس فالرمز حين لا ينقلنا بعيداً عن حدود القصيدة ونصها المباشر لا يمكن القول بأنه رمز، الرمز معنى خفي، إيحاء وامتلاء.
وقد مجد شعراء الغرب الرمز، وعلى رأسهم (بودلير) الذي يرى أن "كل ما في الكون رمز، وكل ما يقع في متناول الحواس رمز يستمد قيمته من ملاحظة الفنان لما بين معطيات الحواس المختلفة من علامات"(2).
هذا فضلاً عن أن الرمز يعد "أفضل صيغة ممكنة للتعبير عن حقيقة مجهولة نسبياً، ولا يمكن أن توضح أكثر من ذلك بأية وسيلة أخرى"(3)، وقد أدرك الشاعر الجزائري المعاصر منذ مطلع السبعينيات ما في الرمز من امتلاء، فراح ينهل منه، مما أثرى تجاربه وأمدها بالخصوبة والتنوع، وقد اتخذ هؤلاء الشعراء لأنفسهم رموزاً خاصة فنجد لكل شاعر رموزه التي يستقيها من الوقائع والأحداث المعاصرة ويرتفع بها إلى مستوى الوقائع الإنسانية العامة.
ومن خلال قراءتنا لهذه الرموز نجدها تنقسم إلى:
أولاً: رموز ترتبط ببعض الأماكن ذات المدلول النفسي الخاص مثل: "الأوراس، المدينة، القرية، السجن، المنفى، ... الخ".
ثانياً: رموز مستمدة من الطبيعة مثل: "النهار، الظلام، الليل، النور، النار، الريح، الخريف، الزنابق، العصافير، الصفصاف، .. الخ".
ثالثاً: رموز مستمدة من القرآن الكريم مثل: "موسى، عيسى، أيوب، ...".
رابعاً: رموز مستمدة من التراث العربي مثل: "أبو ذر الغفاري، الشنفرى، عنتر، ليلى، خالد، هند، .. الخ".
ويستوقفنا رمز "الأوراس" الذي يشغل حيزاً كبيراً في المتن الشعري الجزائري، وليس ذلك بالشيء الغريب فقد تغنى الناس بالثورة وبجبال الأوراس التي انطلقت منها الثورة فحق للشعراء إذاً أن يكونوا السباقين للإشادة بالأوراس معقل الثورة وأن يتغنوا بمآثره وأمجاده، بكبريائه وصموده، بشموخه وعظمته، خاصة وأنهم أكثر الناس إحساساً وأكثرهم قدرة على التعبير عن المشاعر والأحاسيس، وإن تباينت المواقف واختلفت الرؤى من شاعر إلى آخر.
وعلى العموم فإننا نقول إن "الأوراس" عند الشاعر الجزائري "هو رائحة التراب، أصالة الوطن، تضاريس الواقع الثوري الذي يمتد من أعماق الجرح إلى آهات القصيدة، يتحرك الأوراس في المكان من خلال وعي الشاعر له، ويتحرك في الزمان من خلال وعي الشاعر لذاته"(4)، والمكان الشعري في الحقيقة ليس إطاراً مادياً محدود المعالم إنما هو حركة الذات المبدعة، فالشعر كما نعلم لا يكرر المكان، فيقدم صورة (فوتوغرافية) مطابقة للأصل بل يعمد إلى إلغاء المكان، وإعادة تشكيله، وخلق انفعال الذات المبدعة "من هذا المنظور الجمالي يصبح الأوراس مكاناً لانفتاح الكتابة لممارسة الرؤية، انفجار الدلالة، وبداية الحداثة، بما هي رحلة للكشف عن أبعاد خفية مترسبة في أعماق الرمز، وقاع الحلم وباطن التجربة"(5).
وبتتبع هذا الرمز عبر المتن الشعري الجزائري نلاحظ أنه مر بمراحل: فكان في البداية يحمل دلالة المكان الخارجية التاريخية أي أن "الأوراس" مجرد وعاء لأمجاد وبطولات وملامح سابقة من ذلك قول (عمار بو الدهان).
إنه "الأوراس"
ألقى كل بركان دفين
يتحدى
ظلمات الدهر مرفوع الجبين
يتحدى الموت، والعصر
وآلاف السنين
صامداً كالقمة الشماء
كالصخر المتين(6)
وأول ما يواجهنا في هذا النص تلك النبرة الخطابية التي هي سمة من سمات القصيدة التقليدية، ولذلك يظل الأوراس في هذا النص موضوعاً خارجياً يقيم الشاعر معه علاقات محددة.
للشموخ والعظمة.
-الأوراس رمز التحدي.
الصمود والمواجهة.
وهكذا فكلما ذكر (الأوراس) تبادر إلى الذهن معنى البطولة والتضحية والفداء، ومن هنا نجد الشعراء دائماً يقرنون الأوراس بالبطولة والأبطال وبالجهاد والنضال، وهذا شيء طبيعي فقيمة الأوراس تكمن في معاني البطولة وروعة القتال من أجل المبدأ أو تحرير الأرض والإنسان(7) "ويحافظ الشاعر على حدود العلاقة الثنائية التي يقيمها مع هذا الرمز الحقيقي الذي تذوب فيه العلاقة ذات البعدين أو أكثر في وحدة دلالية احتمالية، تنفجر إيحاء متجدداً، وظلالاً كثيفة"(.
وتظهر صورة الأوراس عند عبد الله حمادي غامضة حزينة يكتنفها جو من الصمت والكآبة، ويمكن أن نحدد ملامح الصورة من خلال النقاط التالية، والتي تشكل على الترتيب المستويات الدلالية لرمز الأوراس.
-دلالة رمز الأوراس
رمز الغضب والرفض والثورة
الأوراس رمز الشرف والأصالة والرجولة
رمز الهوية الوطنية
يقول الشاعر في قصيدة "ما زال يكبر أوراس بذاكرتي":
أوراس ماذا دهاك اليوم محترق
وسافر العشق من عينك والنسب
هل تستحي اليوم إن غامت خواطرك
تحت ضباب، وأشقى زندك الحطب؟
(...) أوراس أبحر...! وأبحر دون ما تعب إن المسافة تطوي حين تصطحب(9).
وصورة الأوراس في هذا النص تبدو صورة مقلوبة- إن صح التعبير بحيث لا نجد تلك المعاني التي عهدناها عند الشعراء حينما يذكرون الأوراس، ويربطونه بالثورة، والمواجهة، والتحدي.
إن حمادي في هذا النص يواسي (الأوراس)، ويحثه على الانتفاضة والثورة، ويدعوه للإبحار في أعماق المدى:
أوراس أبحر..! وأبحر دون ما تعب
إن المسافة تطوى حين تصطخب
غازل بنجمك في الآفاق ملحمة
وأسرج خيولك.. وأهزج أيها العجب
(...) أوراس عجل، ولا تمهل بأغنية
إن الحنين إلى الأوتار ينتحب(10)
وسبب ذلك كما يرى الأخضر عيكوس: "أن الشاعر قد خلع مشاعره النفسية الحزينة على هذا الرمز فصار (الأوراس) غاضباً حزيناً ولكن الواقع أن الحزين الغاضب هو الشاعر نفسه"(11)، ولذلك يبدو عليه الإحساس بالمرارة وهو يخاطب (الأوراس) الأشم على خلاف الشاعر محمد بن رقطان وغيره من الشعراء الذين ألهمتهم ذكرى ثورة التحرير العظمى، فكتبوا فيها شعراً عظيماً عظمة هذه الثورة، فهي في شعر محمد بن رقطان قبس من الضياء كان له فعل السحر في إعادة صياغة الحياة بكل أبعادها، ومنارة تهتدي بها الأجيال وتستلهم منها عناصر القوة والمنعة لمواجهة المستقبل يقول الشاعر:
قبس من ضياء نوفمبر الخلد
صاغ الحياة صوغاً جديدا
ويسقى على الدروب منارا
ودليل الخطى لئلا نحيدا(12)
وإذا عدنا إلى حمادي وبحثنا عن سبب الغضب النفسي الذي بدا في صورته أدركنا "أن الشاعر يطالب بأن تتجسد صورة نوفمبر تجسيداً فعلياً"(13) ونعني بذلك تحقيق أحلام الشهداء، وقيمهم ومبادئهم التي ضحوا من أجلها بمهجهم الغالية، ولكن الشاعر يصاب بالخيبة لأنه لا يجد شيئاً من ذلك في واقعه فيستغيث ويستنجد (بالأوراس) قبلة الثورة والثوار ويلتقي الشاعر (عياش يحياوي) مع الدكتور عبد الله حمادي في استخدام رمز (الأوراس) بالدلالة السابقة:
شاخ سيف الجهاد يا نخوة الأوراس
في موطن بصير أعور
مزقتها أشعة الرحلة الأوهام
لا حياة تعز حين الخواء المر
يرغي به الضباب الأحمر
لا حياة يا واحة الفجر تغري
حين وجه الهوان بالعيش يكفر
لا حياة سمرة الخيل تبقى
حين بالذلة السيوف تعفر(14)
هذا النص يبرز لنا بشكل واضح نقاط التقاطع بين هذين الشاعرين حين نجدهما يصدران عن رؤية واحدة، تعمق الشعور بالألم من الواقع المعيش ونحن حينما نقرأ هذه النماذج نشعر في أعماقنا بشعور غريب يهزنا إلى أجواء الأوراس، ويجعلنا نتفاعل ونتأثر بالمواقف البطولية الثورية التي استمدها الشاعران من وهج جبال الأوراس التي تحمل في هذه النصوص دلالة المقاومة والتحدي، وهي تنبع من إحساس ثوري يرفض الواقع الفاسد، ويسعى لتغييره واستبداله بواقع أفضل، وهذا ما يفرق بين الرمز العربي والرمز الغربي الذي نشأ في الأصل هروباً من الواقع إلى الغيب، فكان كما يقول أحمد عبد المعطي حجازي "خلاصاً فردياً يحقق به الشاعر الأوربي راحته النفسية"(15).
وبين الخلاص الفردي والخلاص الجماعي، فرق شاسع:
انغلاق
الخلاص الفردي غيبة (الخيال)
خدر نفسي
انفتاح
الخلاص الجماعي واقعية
مشاركة في التغيير
(وعي)
والنماذج السابقة تحمل رؤيا (الخلاص الجماعي) فهي تسعى إلى اختراق الواقع وانتشاله من مستنقع الحياة الراكدة، والدفع به إلى الأمام مستمدة من رمز (الأوراس) أبعاداً دلالية جديدة منها:
ربط الماضي بالحاضر
الأوراس الثورة
التمرد على الواقع
المستقبل الزاهر
وفي ظل هذا الخضم من التناقضات بين (الماضي، الحاضر) تبدو لنا بعض التجارب أكثر تفاؤلية يبدو فيها (الأوراس) شامخاً ويظل ملحمة في قلوب الجزائريين يستمدون منه الوهج كلما خفت في نفوسهم نار الثورة والمقاومة:
وأوراس سوف يظل بأعماقنا شامخا
باطل كل ما تدعيه المراثي
وما يكتب الأمراء
ونعشق أن يكتب البحر عنا صحيحا
ولكن أوراس
ملحمة في القلوب يظل(16)
وتتعمق هذه الدلالة إذا قرأنا المتن الشعري الجزائري المعاصر خاصة عند الشعراء الشباب أمثال عز الدين ميهوبي، عبد الكريم قذيفة، أحمد شنة، نور الدين درويش، وغيرهم، وربما يكون عز الدين ميهوبي أكثر هؤلاء الشعراء توظيفاً لهذا الرمز، وأكثرهم استلهاماً للذاكرة الثورية "وهو إذ يستوحي الذاكرة الثورية في كتاباته الشعرية، فإنه يرسمها ويسقطها على فضاء مكاني محدد، اسمه (الأوراس) بحيث الأوراس من عالم الجغرافيا، من مجرد سلسلة جبلية.. ليتمثله "سدرة منتهى" يسافر نحوها خاشعاً طهوراً.. مسربلاً بحرقة الوجد والفناء"(17).
وهكذا يستحيل (الأوراس) إلى رمز صوفي يتوحد معه الشاعر على طريقة الحلاج وغيره من أعلام الوجد الصوفي يقول الشاعر:
متى سأرسم عشقاً أنت منبعه
فأنت أعظم بعد الله يا بلدي!؟
إذا ذكرتك كنت الحلم يا وطني
وكنت تسبح في روحي وفي جسدي
وكنت رحلة عمر بت أسأله
أفي التراب.. يذوب العمر للأبد!(18)
ويبدو الشاعر في هذا النص عاشقاً ولهاناً يكاد يذوب حزناً على الفراق على طريقة العذريين حيناً، ويبدو حنياً آخر صوفياً متهجداً في حضرة المحبوب، وهذا يحيل الصورة الحسية "على عرفانية صوفية تمزج تيار العاطفة وتيار العقل، وتوحي بالجمال متجلياً في طابع جلالي، وبالجلال ظاهراً في طابع جمالي"(19).
وهذا الموقف يذكرنا بذلك الشوق الصوفي المتأجج الذي نجده عند أقطاب الصوفية المشهورين كابن المفوض، وابن عربي، ورابعة العدوية، إنه الشوق الأبدي الذي يدفع إلى الرحلة والسفر نحو أقاصي الذات الإنسانية.
ويزداد الجيشان العاطفي الذي هو من ميزات ديوان "في البدء كان أوراس"، ويتجلى بكيفية ملموسة في هذه الأبيات الموالية، فالشاعر يفنى فناء كلياً في (الأوراس) الذي يغتسل فيه الصباح وتذوب فيه الأنجم من فرط الضياء والصفاء.
أوراس يلتحف الشهيد.. بصخره
وتطير من كف الشهيد الأسهم!
وهناك يغتسل الصباح بنوره
وتذوب من فرط الضياء الأنجم(20)
وهنا يحاول عز الدين ميهوبي كما هي حال الصوفية- تخطي عالم المحسوسات، واعتلاء عوالم الروح بكل تجلياتها، فتحول (الأوراس) إلى روح سامية وكياناً جوهرياً أصيلاً.
ويمثل النص السابق نمطاً رمزياً خاصاً، وهو ما يعرف "بالصورة الرمزية التصاعدية" ونقصد بذلك تحول (الأوراس) من الحيز المادي إلى الحيز الروحي المجرد، بحيث لم يبق من الأوراس أية صفة مادية، فقد غدا رمزاً شعرياً فيه ما في رموز الشعر من إحالة موحدة بين الحسي والمثالي، بين المادي والروحي.
ويرتبط رمز الأوراس في تجارب أخرى بفلسفة الحلم التي اهتم بها الشعراء المعاصرون، كما اهتم بها الرومانسيون في البداية ومنحوها قيمة كبرى، وخاصة على يد الكاتب والفيلسوف الألماني (Hader) إلا أنهم ظلوا يتحركون على سطوح الظاهرة دون الأعماق، التي بلغها الرمزيون الذين استفادوا من تراث الرومانسية ونظريات فرويد في معالجة الحلم الذي غدا عندهم ضرباً من الممارسة الصوفية ومنبعاً للخيال الشعري، وغدا عند بودلير معادلاً للرؤية وأداة لاقتناص الرمز المعقد.
وفي شعرنا الجزائري لاذ الشعراء وعلى رأسهم الشباب "بالحلم بوصفه أداة لعالم مليء بالإمكانات، وأداة لبعث الحياة والتجدد في كل ما تسطح وجمد في الرؤية التقليدية."(21) وعالم اليقظة في هذا السياق- حالة غياب عن الحقيقة، لهذا لا بد من وعي جديد يستطيع احتضان الحقائق، ودمجها في تيار اللاشعور الذي يفصح عن ذاته بالحلم، وهذا الأخير الذي يعد نافذة يطل منها الشاعر على عالمه النفسي في محاولة للخروج من عالم الكآبة والحزن، وهكذا يصبح المكان (الأوراس) مادة في يد الخيال الجامح الذي يتيحه الاستغراق في الحلم، يقول عبد الكريم قذيفة:
أغني..
لهذا الرذاذ الذي ضم القلب هذا المساء
إيه (أوراس) يا مطراً ينعش الغرباء
الطريق طويل.. طويل..
وها أنت بحر الزخم!!(22)
وعندما نقرأ هذا النص ندرك أن ثمة ترابطاً بين الحلم والواقع، فالشاعر يحلم بالأوراس ويتحسر على الواقع "إيه (أوراس)"، لأنه يرغب في تغيير واقعه وتجديده، وبعثه
خلقاً جديداً على الرغم من أن "الطريق
طويل.. طويل"
متعب أن نسافر في الصمت قال:
وجدير بنا أن نجاهد فينا الألم!
خذ يدي إليك
وافترش زندي المتوهج.. خذني إليك
إنني شاعر مثلك الآن يا عشقي
فالتحف ونم!!(23)
وتنتهي الرحلة، وينتهي السفر بالتوحد، وتحقق الآمال في بعث جديد يعيد البسمة للنفوس، ويرجع السعادة للقلوب وهكذا نرى أن:
- الدلالة السطحية المباشرة للنص السابق تدور حول شوق الشاعر وحنينه إلى التوحد مع الآخر.
- أما الدلالة العميقة فتطوي على قيم رمزية بعيدة تشير إلى تلك الغربة التي يعيشها الشاعر، والتي ولدت فيه هذا النزوع القوي إلى (الحلم)، لأنه بالحلم يستمسك طوقاً للنجاة والخلاص من الواقع المأفون.
فالشاعر إذاً بلجوئه إلى الحلم يسعى إلى تغيير واقعه، وإن كنا نحسب أن الشاعر الحقيقي مصدره الحلم، وهذا الواقع الذي نعيشه هو صورة مشوهة للنماذج الخالدة التي يتوصل إليها بطريق الحلم.
فالحلم إذاً كما نرى كان ملجأ كل شاعر نفر من وحشة الحياة وأراد خلقها خلقاً جديداً كما هو شأن أحمد شنة حيث يقول:
أوراس يولد من حطام حروفنا
ويفوح من بصماتنا القرآن
أوراس يخرج بخار مائنا
شجراً يضم صهيله الرحمان
قمراً وتذكاراً وقلباً عاشقاً
أوراس كل صخوره رهبان
أوراس أقبل فالجوانح أقفرت
أقبل فأبطال الهوى غلمان(24)
ويتأزم الموقف في هذا النص، حيث تزداد المشاعر التهاباً وسط إفرازات عصرنا وتناقضات واقعنا فيستنجد الشاعر بـ(الأوراس) "أوراس أقبل فالجوانح أقفرت" وفي هذا دلالة واضحة على أن هذا النص يحمل الكثير من الوعود المحملة بزخم الحاضر وإشراقة المستقبل الذي يأتي مكللاً بالثورة والانتصار:
لا تنكمش بين الجلامد خائفا
وافتح يديك لكي يرى عثمان
من سيفك المكسور تولد ثورة
وتسيخ في خطواتك الصلبان
فخلال دمعك سوف ينبت مولد
وخلال دمعك تركع التيجان
كن سيد الأوثان في خفقاتهم
كن أنت حتى يولد العربان(25)
وهكذا نرى صوت الشاعر المدوي يعلو ويتغلب على الواقع معلناً عن ميلاد الشخصية الخاصة، مغنياً وجدان الوطن الرائع المفقود، وفي هذا انتصار للحلم على الواقع، انتصار للأمل المشرق الذي سينبع من خلال دموع اليأس والإحباط المسيطرين على الواقع.
وهكذا نستطيع أن نرى في ضوء هذا العرض السريع لرمز الأوراس في الشعر الجزائري المعاصر كيف أن هذا الرمز قد تطور من الناحية الجمالية، فبعد أن كان مجرد إطار مكاني للثورة التحريرية تحول إلى رمز يحمل دلالة المواجهة والتصدي للواقع الأليم بالانكسارات، أما في التجارب المعاصرة- شعر الشباب- فقد تطور هذا الرمز في اتجاه نحو الطبيعة المادية الحسية (للأوراس) ليتحول إلى رمز صوفي فيه ما في الرموز الصوفية من دلالات وإيحاءات باطنية في حين لجأ بعض الشعراء إلى الربط بين رمز الأوراس والحلم باعتباره معادلاً موضوعياً لنفسياتهم المفعمة بالسمو والامتلاء.
هوامش الدراسة
(1)-أدونيس، زمن الشعر، دار العودة، بيروت 1972، ص 160.
(2)-فتوح أحمد، الرمز والرمزية في الشعر المعاصر، ط2، دار المعارف، القاهرة، 1978، ص 112.
(3)-مصطفى سويف، الأسس النفسية للإبداع الفني، دار المعارف بمصر 1973، ص 205.
(4)-إبراهيم رماني، أسئلة الكتابة النقدية، ص 104.
(5)-المرجع نفسه، ص 104.
(6)-عمار بودهان، معزوفة الظمأ، ص 39.
(7)-عبد الله ركيبي، الأوراس في الشعر العربي، ش.و.ن.ت، الجزائر 1982، ص 15.
(-إبراهيم رماني، أسئلة الكتابة النقدية، ص 109.
(9)-عبد الله حمادي، تحزب العشق يا ليلى، دار البعث، الجزائر 1982، ص 206.
(10)-المصدر نفسه، ص 206.
(11)-جريدة النصر، ع (01/12/1984).
(12)-محمد بن رقطان، ألحان من بلادي، ص 116.
(13)-جريدة النصر، ع (01/12/1984).
(14)-عياش يحياوي، تأمل في وجه الثورة، ش.و.ن.ت، الجزائر 1983، ص 43.
(15)-ياسين الأيوبي، مذاهب الأدب معالم وانعكاسات، ج2، (الرمزية) بيروت 1982، ص 241.
(16)-محمد زتيلي انهيار مملكة الحوت، ص 16.
(17)-ينظر معجم المصطلحات الصوفية، سعاد الحكيم.
(18)-عز الدين ميهوبي، في البدء... كان أوراس، ص
(19)-عاطف جودت نصر، الرمز الشعري عند الصوفية، ط3، دار الأندلس، بيروت 1983، ص 207.
(20)-عز الدين ميهوبي، في البدء كان أوراس، ص 20.
(21)-عز الدين إسماعيل، الشعر العربي المعاصر، ص 448.
(22)-عبد الكريم قذيفة، لو أنت تدري كم أحبك، ص 17.
(23)-المصدر نفسه، ص 17.
(24)-أحمد شنة، زنابق الحصار، ص 31.
(25)-المصدر نفسه، ص 32
-الجزائر-
محمد بن زعبار- عضو مبدع
- عدد الرسائل : 1062
نقاط : 2133
تاريخ التسجيل : 02/11/2008
مواضيع مماثلة
» ازمة الشعر الجزائري
» ام المعارك في ديوان الشعر الجزائري-العراق-
» لسان العرب لابن منظور
» قال لي العلامة والمصلح عبد الحميد إبن باديس
» مقدمة عن الأدب العربي المهجري المعاصر
» ام المعارك في ديوان الشعر الجزائري-العراق-
» لسان العرب لابن منظور
» قال لي العلامة والمصلح عبد الحميد إبن باديس
» مقدمة عن الأدب العربي المهجري المعاصر
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الجمعة أبريل 12, 2024 4:10 pm من طرف سعداوي ربيع
» المتألقه ياسمين ابراهيم
الثلاثاء أكتوبر 10, 2023 8:54 pm من طرف سعداوي ربيع
» إستمتع بخدمة ultimate game pass لجهاز الإكسبوكس و الحاسوب
الخميس نوفمبر 24, 2022 10:35 pm من طرف lmandoo
» ربيع المؤمـــــــــــــــــــن
الثلاثاء نوفمبر 08, 2022 8:11 am من طرف سعداوي ربيع
» مشروع واحة الشاطيء شقق للبيع في مدينة دبي للاستديوهات
الخميس نوفمبر 03, 2022 9:21 pm من طرف lmandoo
» شركة حلول ميج للاستشارات وتطوير الأعمال
الثلاثاء أكتوبر 18, 2022 11:26 am من طرف lmandoo
» نانا اليوم اقوى الخصومات على كل المنتجات
الأربعاء أكتوبر 12, 2022 11:28 pm من طرف lmandoo
» مرام مالك فنانة غنائية سعودية
الإثنين سبتمبر 05, 2022 5:12 am من طرف lmandoo
» موقع تعليمي سعودي لتغطية كافة المناهج
الخميس أغسطس 25, 2022 11:44 pm من طرف lmandoo
» يونيريم للرعاية المنزلية UNIREM Home Care
الأربعاء أغسطس 17, 2022 3:49 am من طرف lmandoo
» ايه افضل بيوتى صالون فى حدئق الاهرام واكتوبر وزايد
السبت أغسطس 13, 2022 3:57 am من طرف lmandoo
» اشطر جراح عام دكتور عبد الوهاب رأفت
السبت أغسطس 13, 2022 2:21 am من طرف lmandoo
» اشطر جراح عام دكتور عبد الوهاب رأفت
الثلاثاء أغسطس 09, 2022 1:47 am من طرف lmandoo
» ايه افضل بيوتى صالون فى حدئق الاهرام واكتوبر وزايد
الثلاثاء أغسطس 09, 2022 1:37 am من طرف lmandoo
» مصممة الازياء رنا سمعان من نينوى العراق إلى العالمية
الإثنين أغسطس 08, 2022 3:45 am من طرف lmandoo