المدينة الصامتة

من طرف عمرية عامر الخميس يوليو 30, 2009 7:54 pm

استيقظت هبة بعد ان تسرب النعاس الى جفنيها المتعبين فحملها النوم الى عالم احلامها الممتد من عالم ذكرياتها. رات نفسها في ارض مكسوة بالاشواك، محاطة بالاسلاك، وقفت طويلا تتساءل ما السبيل الى الخلاص؟؟ تتلفت يمينا تزيد شمال، تبحث عن مسلك، تريد منفذ و لا تجد، الى ان استيقظت فزعةً تريد الماء..

كان اليوم المنتظر، يوم تودّع امّها و تستسلم للامانة الملقاة على عاتقها. الجميع يراقبها، ينتظر منها موجة هستيرية او صرخة تسخطية او عويلا او نحيبا او…. الكل يتابعها و يزن تحركاتها، لكنها لم تفعل، لم ترضخ لطلبات العيون، لم يستفزها الصراخ،لم تأبه للعويل..

وُضعت الام الملفوفة بالبياض في وسط بيتها، بين اهلها، ليودعوها .. تقدمت نحو الجثمان خطوة خطوة .. بدت و كأنها وردة صفراء، صامتة، ساكنة، باردة،.. على الشفاه اليابسة ارتسمت بسمة غامضة، قبلتها و اخذت تحدق بوجهها وهي تحاول تفسيرها و كشف سرها ....قبلتها و كانت القبلة الاخيرة، عرفت هبة انها النظرة الاخيرة، سلّمت انها اللحظة الاخيرة.. قامت بعدها تصارع الوهن، وارتمت في احضانٍ كانت بجانبها..

أُُُسدل الستار الابيض على وجهها و حملتها الاكتاف، وُوري عليها التراب بعدما صُلى عليها صلاة بلا ركوع و لا سجود.. ووُسِم القبر بثلاثة شواهد دلالة على كونها امرأة.

جعلت النسوة محور حديثهن ابتسامتها الغامضة، فأخذت تردد احداهن:"ما دامت الابتسامة هي التي زينت وجهها فٳن ربها راضٍ عنها"، و تقول اخرى:"هي في الدنيا زاهية و في الآخرة زاهية كما يقوله الاولون". واخذت اخريات تنثر عبارات الشفقة عما سيحصل للاولاد بعد وفاة أمّهم. اما بعضهن فقد استسلمن لوابل الدموع للفضفضة عما يختلج صدورهن من هموم و جراح …

حضرت هبة رفقة جمع من النسوة صبيحة اليوم التالي لزيارة المقبرة كعادة اهل البلدة، دفعت احدى دفتي البوابة الضخمة فاندهشت لهول المكان. انها المدينة الصامتة التي تثير الهلع في قلوب زوارها، فلا ترى مكانا فيها لمتسكع او سائح. انها مستودع الزمن، اليها يأوي الراحلون بلا رجوع.. سكانها الذين كانو ينتمون لطبقات مختلفة لا زال ذلك طابع بيوتهم الحالية؛ فالقبر المزخرف بالرخام و الآجر يدل على ثراء صاحبه و القبر المبني بالتراب و الحجر فصاحبه تجرع مرارة الفقر، وذلك القبر الزاهي بالورود فاهله ما زالوا يوفون بالعهود، اما القبر المهجورفأهله قد دفنوه، وانصرفوا الى مشاغلهم و نسوه. اما القبور المبنية على مقامها بيوت فهي لاصحاب الكرامات و التي جعلت للزيارة ،حيث خُصصت بها امكنة لوضع الشموع و اعواد البخورللتبرُّك و حتى للاستعانة وطلب الرزق.. ُيكسى القبر برداء اخضر و يستبدل كل موسم من طرف ذوي الحاجات و الوعْدات و…

على امتداد البصر في طرف المدينة يقع البيت الجديد لأم غادرت البيت السعيد،غادرت زوجها و اولادها بلا اذن اومعاد او توديع..غادرت غرفتها، مطبخها، فنائها..غادرت شجرة الزيتون التي رعتها، ودجاجاتها اللواتي يبضن لها كل يوم، و قطتها التي احضرتها قصد القضاء على الفئران.. غادرت جاراتها اللواتي طالما تسامرت معهن..غادرت الى حيث اللاعودة ، رحلت و لن تعود..