بين يدي القبر

من طرف عمرية عامر الثلاثاء أغسطس 04, 2009 1:28 pm

تمضي هبة بين القبور، تحاول المشي بهدوء حتى لا تتخطى قبرا او تطأ رجلها حمى قبرٍ آخر. تسير و رهبة المكان تحاصرها حتى تقف عند اعتابه، هنا ترقد امّها تحت اطنان التراب.. انه قبرها، مكتوب عليه بياناتها.. هذا قبر المرحومة رشيدة دحمان …تمتد يدها لتحمل حفنة التراب المبتل من على القبر .. تحدق بذرات التراب بنظرات مشتعلة، تخاصمها، تحسبها اختطفت امها و تفرّدت بصحبتها، تُقبّلها لتعيدها اليه و تجعلها حارسةً عليه.. تشهق شهقاتٍ تنبعث من اللهيب الساري في الفؤاد،فجأة احسّت بشلل في ركبتيها، تشبثت بجدتها التي دثّرتها بوشا حها القطني واخذت تدفعها للمغادرة و تقودها نحو البوابة. ارسلت هبة خطوات المغادرة و هي تتلفت، غير مؤمنة انها سوف تعود الى عالم الناس و تترك امها.. طأطأت رأسها و دفنت عينيها المنكسرتين بكفّيها و عادت ادراجها الى البيت الذي هدأت به حركة المُعزّين..

ٳنبعث في اجوائه صمت رهيب و تسربت الى اركانه برودة جافة تنذر بانقضاء اعوام الخير و قدوم سنوات القحط العجاف. انها مظاهر رحيل الصدر الدافئ و القلب الكبير و البسمة الصادقة و النظرة الحانية…تنعزل هبة في احدى زوايا الغرفة لتستسلم للدموع التي تخنق صدرها ..

تتوالى الزيارات الى المدينة الصامتة اين يتعانق هدوء السكان بوحشة المكان و تمتزج دمعة الذكرى بغفلة النسيان و تلتحم لوعة الاسى بدعوة الغفران.. تقف هبة مع انطلاقة كل صباح على قبر امها، تتلمسه، تتبع حروف اسمها المحفورة على الشاهد، تقرأ الفاتحة و تختم بدعاء. تستغفر، تشهد، لتمسح وجهها بدفئ راحتيها. تنظر من بعيد لتلحظ شابا يرتدي قبعة بيضاء، تحمله خطواته الى اعتاب قبر ليقف طويلا حاملا ايدي التضرع. يجلس الشاب بمحاذاته و يكلمه ثم اذا به يُحضر الماء ليرشه على القبر. ترسل اخاها يحي الذي يرافقها دوما كي يأتي بخبره، يكلمه الشاب قليلا ثم ينصرف. يخبرها يحي بأن صاحب القبر يكون صديقه و رفيق دربه، نشآ معا، لعبا معا، أكلا معا، حتى طاولة القسم جمعتهما معا.. ثم ما يلبث ان يُودّعه في حادث سير، وكانا قد تعاهدا على الالتقاء بعد عودته من الخدمة العسكرية. ظل الشاب ساعات ينتظره في احدى مقاهي البلدة، يهاتفه ولا يرد حتى سمع نفرا من الناس يتحدثون في قضية حادث حصدت روح شاب في الثالث و العشرين من عمره. قصدهم ليسألهم عنه، قالوا انه يُدعى "حميد"و يُكنيه اصحابه ب"الكاسكيطا" لولعه بالجيش في صغره. يقول يحي:" طأطأ الشاب رأسه و قال لي:"فانطلقت اجري الى منزلهم، لمحتهم يُدخلونه المسجد، صلينا عليه، حملته معهم على كتفي، وضعته في القبر بيدي و عاهدته على خلود الصحبة التي بيننا.. لا استطيع ان انساه.." ثم يتساءل يحي متعجبا: هل مازالت الصحبة في هذا الزمن؟!!". تُرتّب هبة على كتف اخيها برفق و ترسل نظراتها الى الافق البعيد ثم تخاطبه:"ارأيت وفاءه رغم كونهما في دارين مختلفين، ان هذا الوفاء لا ينمّ الا عن حب صادق، انه الصدق يا اخي.. الصدق هو الذي يصنع الوفاء. لم يتخل عنه و لم تشغله هموم الدنيا وتقلباتها، حتى لو اتخذ خليلا آخر يملأ عليه فراغه فلا يمكنه ان ينسيه رفيقه الحميم..". يمسح يحي علىشاهد القبر، يبتسم ابتسامة حزينة و يعد امه قائلا:" لن انساك ابدا يا امي، مهما حصل سأظل ازورك". تقوم هبة، تشدّ على يد اخيها ليمضيا عائدين الى البيت.