مـــــــــــــــــــــواعظ
من فضل الله على عباده تتابع مواسم الخيرات ومضاعفة الحسنات فالمؤمن يتقلب في ساعات عمره بين أنواع العبادات والقربات فلا يمضي من عمره ساعة إلا ولله فيها وظيفة من وظائف الطاعات وما أن يفرغ من عبادة إلا ويشرع في عبادة أخرى ولم يجعل الله حدا لطاعة العبد إلا انتهاء عمره وانقضاء أجله.
وبعد ان اتم الله لنا نعمة اكمال شهر الصيام والقيام ورتب عليه عظيم الأجر والثواب صيام ست أيام من شوال التي ثبت في فضائلها العديد من الأحاديث منها ما رواه الإمام مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال : ( من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر
المواضيع الأخيرة
بطاقات اسلامية
أدعية رمضانــــــــــية
حزن آخر(8)
2 مشترك
ضفاف الإبداع :: الفـــــكر و الأدب و الثقافة و الفن :: ضــــفــــــ الســــــــرديــــــــــــــات ـــــــاف
صفحة 1 من اصل 1
حزن آخر(8)
شعرت وسيلة أن عياش قد طعنها في الظهر، وأنه لم يكن يريد أولادا كما زعم، بل لشهوات في نفسه جعلته يستبدلها بأخرى، ولم يعد يدخل غرفتها إلا نادراً، حين يريد أن يشبع فضوله، فيطل عليها بينما يتهيأ لخروج أو يعود متأخرا . وكان حديثهما يصلها عبر الجدار ليلا، تقطعه بين الحين و الحين ضحكات متكلفة عمدا لإغاظتها. وذات مرة أراها حبوبا تمنع الحمل ، قائلا إنه ليس راغبا بعد في الأولاد.
ولم تكن تجيبه إلا بنظرات جامدة، وفي الأيام الأولى كانت تتفادى الحديث إلى ضرتها وتتجنبها قدر الإمكان، ولكن المرأة الجديدة كانت تتعمد الاصطدام بها، مستعرضة أمامها قواها، كأن تفرط في تزيين نفسها للزوج الذي يموت فيها كما تقول، أو تخرج من حين لآخر إلى الحمام، أو للتسوق معه فتعود محملة بفساتينها الزاهية أو بأي شيء مما يذهب بعقول النساء.
كانت مرصعة بالذهب من رأسها حتى قدميها. من القيراطين النادرين اللذين هما هدية والدها، إلى السوار الضخم الذي تزينه أحجار كريمة والخواتم التي تزدحم بها أصابعها النحيلة، إضافة إلى عقد خاص هو هدية العمر من زوجها الحبيب كما تقول، ناهيك عما هو محفوظ كأسرار، لا ينبغي البوح به، فكانت تكتفي بالإشارة إليه حتى تثبت لها وجوده.
وكادت وسيلة تتحول إلى خادمة تقوم بأعمال التنظيف والطبخ والغسيل، ليس كرها عليها ولكن شعورا منها بالمسؤولية، فضرتها لا تقوم بمثل هذه الأعمال التي لا تصلح لها سواء كزوجة عياش ابن العمري ، أو كابنة سي فرحات بائع قطع الغيار الوحيد في البلدة، إلا أن ما كان يسرى على وسيلة هو زيارات منتظمة لصديقاتها ، يحضرن إليها ويغلقن على أنفسهن في الغرفة ويبدأن في الحديث .
وذات مرة عاد عياش في غير موعده، فدخل غرفته، ثم خرج بسرعة ودخل غرفتها، فلما ألفاها مع صديقاتها، توارى خلف الباب مستحييا، ثم دعاها أن تخرج أليه باحترام زائد، ثم دخلا إلى الصالة، فقال لها ببرودة كبيرة:
- لا أريد هذه التجمعات في منزلي، ولا أن أرى هذه الوجوه. لماذا يكثرن الحضور هكذا ؟
فردت بسرعة وقالت:
- نعم. كما تشاء، لن تراهن بعد اليوم.
- إذا أردت الذهاب إليهن فاذهبي، لن أمنعك رؤيتهن إذا أردت.
وأحست بالإهانة، إذ ظنت أنه يقصد إبعادها من المنزل، وتخيلت نفسها ثوبا قديما لم يعد يساير ذوقه، وقال لها بينما كان يهم بالخروج، كأنه يتذكر شيئا:
­ آه. غدا تذهبين إلى أهلك، سأوصلك لتقضي بعض الأيام عندهم.
فلما دخل، انبعثت من غرفته ضحكة حادة قوية، ضحكة اعتادتها كثيرا بما يكفي لأن تتقي وخزها.
وفي الغد أخذها في سيارته إلى أهلها، ولم يدخل معها إليهم، فبمجرد أن أنزلها غادر المكان بسرعة، تاركا إياها تدخل إليهم وحدها. ومنذ تلك اللحظة لم تره، حتى وصلتها ورقة طلاقها منه، فأصابتها في القلب، سهما مسموما من سهامه، وغدرا لا تستحقه، وأحست أنها ضائعة، وأنها ما عادت تقوى على المواجهة. تراءى لها الطريق كئيبا موحشا، فبالرغم من إخلاصها له، هاهو يتخلص منها كخرقة بالية، وحاول أهلها مواساتها حتى لا تنكسر، ولكنها أدركت الفشل، وماتت فيها المرأة التي كانتها، وولدت أخرى من نوع مختلف، امرأة صلبة، لا تؤمن بالعواطف كثيرا.
ولكنها فكرت في الأمر طويلا، فهو كان من طينة مغايرة لطينتها، رجل صلب القلب كالحجر، وهي امرأة مرهفة فكيف لهما أن يتفقا. كان هو لا يقدر على الاعتراف بها كشخص يشاركه، وكانت هي تتنازل عن كل شيء، وأدركت أنهما ضدان، شخصان سارا جزءا من الطريق فإذا هما غير قادرين على الإستمرار، فطلقها. هذا كل ما في الأمر.
ومع هذا، شعرت بالإهانة، فلو أنه طلقها ثم تزوج لكان الأمر هينا، ولكنه أرضى غروره أولا، ثم رماها خرقة بالية، وأحست بالحقد نحوه، ثم شعرت بالراحة إذ كان كذلك، شخصا تافها لا يناسبها، ونسيته مع أول فرصة.
عاد صالح من سفره ليلا، وراح يزيد من سرعة الشاحنة ويتوهم أنه لن يصل بلدته إلا فجراً. كان يسوق باضطراب رغم انه تمرن شهرا كاملا مع سي حمو، أعطاه خلاله خبرته، وبعضا من وساوسه، وانتابته أحاسيس مبهمة، ثم انحرفت به الشاحنة عن الطريق وفقدت توازنها، ولم يفق إلا وهو في العراء على أرض موحلة، وحاول أن يعيد الشاحنة إلى الطريق، ولكن العجلات كانت قد غرقت في الوحل، فنزل وجلس القرفصاء أمام الشاحنة، ثم صعد ثانية وأضاء المصابيح، ونزل ومعه مصباح يدوي أخذ يسدده على العجلات التي غاصت في الوحل كثيرا . ولما أعيته الحيلة، خرج إلى الطريق وحاول أن يطلب نجدة ، ولكنه فشل أيضا، كانت السيارات القليلة تمر عليه بسرعة ولا تتمهل، فعاد إلى الشاحنة وبه غيظ شديد.
نظر إلى السماء المرصعة فوقه، ثم زفر زفرة من أعماقه، وشغل المذياع، وعاد ينظر إلى السماء الوحيدة ، ثم مال إلى المقود ولبث يستمع، وفجأة حزم أمره، فأدار المفتاح وشغل المحرك وضغط على المسرعة وإذا بالشاحنة تنطلق. فقادها بتؤدة حتى أعادها إلى الطريق، وعندئذ أطفأ المحرك والمذياع ولبث يلهث وقتا لا يعرفه.
ولما هدأ، شغل المحرك وأضاء المصابيح وواصل سيره، شغل المذياع مرة أخرى وكانت أغنية تدندن منه، وفجأة انقطعت وبرز عوضا عنها صوت يقول:
- رئيس الجمهورية يستقيل.
ولم ينتبه إلا لهاتين الكلمتين، فقد نفذ الذهول إليه وشعر بنفسه باردا وبأسئلة تنخره: لماذا يستقيل في هذا الظرف بالذات؟ ولمن هذا الوطن كله؟ ولم يدر لم تخيل صورة البلد الشاسعة عندئذ،وخوف وإرهاق يحاصره، وأسئلة كثيرة لم يجد لها جوابا.
شعر بالفراغ يحيط به، فقضى الطريق بأكمله يفكر، فلماأن كاد يصل بلدته، رأى الطريق التي تؤدي إليها خالية على غير العادة ، فأوجس في نفسه خيفة ، ثم دخل البلدة فألفى شوارعها خالية أيضا ، ولم يعرف ما الذي حدث ، فسأل الحارس الذي فتح له البوابة ولكنه لم يكن على علم بشيء .
وفي الغد لما استيقظ من نومه متأخرا، قال له والده:
- ألزم بيتك ولا تخرج، بدأ أمر لا محيص منه.
كانت الأزمة قد بدأت، فوجد صالح نفسه في وضع جديد لم يحسب حسابه، شعر أن تيارا هائلا يجرفه، وأن ما كان يتخيله شيئا ثابتا هو في الواقع وهم ليس إلا، ولكنه وهم يبعث في نفسه ألما. شيء ما يحدث أو على أهبة الحدوث ولا أحد يقدر على وعيه، شيء عظيم أكبر من كل العقول الصغيرة التي كانت تصنعه، واضطربت البلدة، وغدا كل شيء كئيبا.ومنذ ذلك الحين، سيطر الرعب على الناس، وخيم الخوف على البلدة، ولم يعد أحد يثق في أحد...
* * *
بعد هذا بأيام أصابت صالح خيبة كبيرة، أحس أن الأمور انفلتت ولم يعد بقدرة أحد أن يسيطر عليها، وفي تلك الليلة استيقظ فزعا على صوت ظن أنه يسمعه، فأضاء المصباح ونظر إلى الساعة. كانت تشير إلى الثانية، فظن أن ما سمعه مجرد حلم مزعج.
وألقى برأسه على الوسادة ونظر إلى السقف المبلط بعينين نصف مغمضتين، وشيئا فشيئا، أخذ النعاس يدب إليه، وهو يتخيل صورا مشوشة لوجوه رآها أو أصوات متداخلة. أصوات طلبات الزبائن الكثيرة، أو أحاديثا يتلقفها من الناس حول الحوادث الكثيرة، أو خليطا من كل ذلك، وأحس أنه في منطقة ما بين النوم واليقظة، فمد يده إلى المصباح ليطفئه، وكاد يعيدها إلى دفء الغطاء لما باغته طلق ناري عنيف، فانتفض من نومه، وهزه طلق آخر متواصل مزق سمعه. الآن عرفه وهو يسمعه في كامل وعيه، وقد تأهب وانتفض وسرت في جسده رعدة غريبة، وقفز من فراشه ودنا من النافذة وأصغى جيدا، فتوقف الطلق لحظة ثم عاد بقوة أشد صرامة، وخرج إلى الرواق فوجد أمه تطل من غرفتها واضعة يدها على فمها وفي عينيها استفهام ممزوج بحيرة، وسرعان ما تبعها والده ثم أختاه بعد أن صعدتا من الدور السفلي وهما خائفتين، وقال والده:
-هذا اشتباك ولا ريب.
فأجابته العجوز:
- أسكت يا رجل.
وسمعوا حركات في منزل الجيران وصراخ طفل وخرخشة كخرخشة الجرذان، وعاد الرصاص مجددا ومزق السكون الذي خيم لحظة، ثم اختفى بالكامل، تاركا مساحة من هدوء مرعب، لم ينقشع حتى الصباح.
وقضوا ما تبقى من الليل مستيقظين، وفي الرابعة عادوا إلى غرفهم، ثم استيقظوا في السابعة ، فأعدت فضيلة قهوة ، وقال الشيخ:
- لا شك عندي إنه اشتباك.
فصرخت العجوز بصوت خافت به حدة، ضاغطة بيدها خديها المجعدين، ثم قالت:
-هل تخرف يا رجل؟
فقال صالح:
-لا يخرف يا أمي، إنه اشتباك.
-يا خوفي.. هل سنقتل؟
فقال الشيخ:
- ما بك يا امرأة. كيف نقتل، نحن لا نهتم إلا بشأننا.
ورفع يده كأنما يبرئ نفسه، ثم التفت إلى صالح وأضاف:
-أوصيك يا ولدي أن تحذر .
ثم أردف:
- أصمت، ولا تتحدث في هذا الأمر لأحد.ولا تصاحب الذين يثرثرون. أفهمت؟
- ومن أصاحب يا أبي. ليس عند إلا سي حمو صاحب الدكان أتحدث معه في أمور العمل.
- واقطع أسفارك إلى الولاية هذه، فالطريق خطيرة.
- ولكن من يسوق الشاحنة غيري؟
- اترك العمل إذا استلزم الأمر، لن تعدم عملا آخر.
وصرخت أمه:
- ماذا دهاك. من أين له بعمل آخر؟ البلد تموج وأنت نائم.
- اقطع أسفارك هذه، أو.. جد طريقة أخرى.
وقال صالح:
­ حسنا.
وهدءوا لحظات، شعر خلالها صالح أن له أشخاص يحبونه ويحفظونه، فعاد إلى غرفته مطمئنا، ولبث هناك حتى التاسعة. وترقب الحذر الذي بدأ، ثم أصغى لقطرات مطر تتساقط على الرصيف الذي لا يفصله عنه إلا جدار. ولم يسمع وقع خطوات أو صفق أبواب كعادته، ولم يمر في شارعه غير سيارتين، ظنهما من السيارات التي تقل تلاميذ المدارس من القرى المجاورة، غير عارفة بما حدث، أو سيارات مجهولة لا يمكن الوثوق بها بعد الآن.
وفي العاشرة خرج الناس إلى الشوارع، وازدحمت المقاهي وعاد كل شيء إلى طبيعته. هؤلاء الناس من كثرة ما عاشوا الموت اتخذوه صديقا، ولم يعودوا يأبهون به، بل خرجوا إلى الشوارع مستطلعين، وفي الحادية عشرة لم يبق في البلدة أحد غير عارف بما حدث.
كان اشتباك قد وقع في حي أسفل البلدة، والذين بكروا في الخروج رأوا آثار الرصاص، ودماء مسفوكة، وأربعة جثث ممددة في الشارع، وواحد منهم لم يزل يحبو على الأرض حتى فارق الحياة، بعد أن خلف وراءه ذيلا طويلا من دماء. وتناقل الناس الحدث عبر المقاهي، وأضافوا إليه من أوهامهم حتى بدا أسطورة أو فيلما من الأفلام، وكان مما أضافوه أن الضحايا كانوا عشرة، وأن سيارتين محترقتين نقلتا ليلا إلى مكان مجهول، وتكلم أناس كثيرون كلهم رأوا الاشتباك بأم أعينهم، فزادوا وأنقصوا حتى أصبح لكل حي من أحياء البلدة نسخة عما حدث.
هؤلاء الناس واهمون، فقد ظنوا أن الأمر قد انتهى لما ساد الهدوء قليلا، ولكنهم كانوا يستيقظون في كل مرة على خوف وقتل ودماء، وأجواء جديدة لم يعتقدوا يوما أنهم سيجدون أنفسهم فيها.
هم هكذا منذ بدأ العنف، البعض منهم رحل من البلدة، والبعض الآخر نزح إليها من القرى المجاورة، البعض مات والبعض جن والبعض اعتقل، وفي كل مرة مزيد من ضحايا وأبواب مسدودة، ويأس لا يقاوم، كأن الأزمة شيء مستحيل الحل، كأن الموت قبضة من حديد تمسك الناس وتقطع أنفاسهم، كأنه شيء لا يصدق.
ولم تكن تجيبه إلا بنظرات جامدة، وفي الأيام الأولى كانت تتفادى الحديث إلى ضرتها وتتجنبها قدر الإمكان، ولكن المرأة الجديدة كانت تتعمد الاصطدام بها، مستعرضة أمامها قواها، كأن تفرط في تزيين نفسها للزوج الذي يموت فيها كما تقول، أو تخرج من حين لآخر إلى الحمام، أو للتسوق معه فتعود محملة بفساتينها الزاهية أو بأي شيء مما يذهب بعقول النساء.
كانت مرصعة بالذهب من رأسها حتى قدميها. من القيراطين النادرين اللذين هما هدية والدها، إلى السوار الضخم الذي تزينه أحجار كريمة والخواتم التي تزدحم بها أصابعها النحيلة، إضافة إلى عقد خاص هو هدية العمر من زوجها الحبيب كما تقول، ناهيك عما هو محفوظ كأسرار، لا ينبغي البوح به، فكانت تكتفي بالإشارة إليه حتى تثبت لها وجوده.
وكادت وسيلة تتحول إلى خادمة تقوم بأعمال التنظيف والطبخ والغسيل، ليس كرها عليها ولكن شعورا منها بالمسؤولية، فضرتها لا تقوم بمثل هذه الأعمال التي لا تصلح لها سواء كزوجة عياش ابن العمري ، أو كابنة سي فرحات بائع قطع الغيار الوحيد في البلدة، إلا أن ما كان يسرى على وسيلة هو زيارات منتظمة لصديقاتها ، يحضرن إليها ويغلقن على أنفسهن في الغرفة ويبدأن في الحديث .
وذات مرة عاد عياش في غير موعده، فدخل غرفته، ثم خرج بسرعة ودخل غرفتها، فلما ألفاها مع صديقاتها، توارى خلف الباب مستحييا، ثم دعاها أن تخرج أليه باحترام زائد، ثم دخلا إلى الصالة، فقال لها ببرودة كبيرة:
- لا أريد هذه التجمعات في منزلي، ولا أن أرى هذه الوجوه. لماذا يكثرن الحضور هكذا ؟
فردت بسرعة وقالت:
- نعم. كما تشاء، لن تراهن بعد اليوم.
- إذا أردت الذهاب إليهن فاذهبي، لن أمنعك رؤيتهن إذا أردت.
وأحست بالإهانة، إذ ظنت أنه يقصد إبعادها من المنزل، وتخيلت نفسها ثوبا قديما لم يعد يساير ذوقه، وقال لها بينما كان يهم بالخروج، كأنه يتذكر شيئا:
­ آه. غدا تذهبين إلى أهلك، سأوصلك لتقضي بعض الأيام عندهم.
فلما دخل، انبعثت من غرفته ضحكة حادة قوية، ضحكة اعتادتها كثيرا بما يكفي لأن تتقي وخزها.
وفي الغد أخذها في سيارته إلى أهلها، ولم يدخل معها إليهم، فبمجرد أن أنزلها غادر المكان بسرعة، تاركا إياها تدخل إليهم وحدها. ومنذ تلك اللحظة لم تره، حتى وصلتها ورقة طلاقها منه، فأصابتها في القلب، سهما مسموما من سهامه، وغدرا لا تستحقه، وأحست أنها ضائعة، وأنها ما عادت تقوى على المواجهة. تراءى لها الطريق كئيبا موحشا، فبالرغم من إخلاصها له، هاهو يتخلص منها كخرقة بالية، وحاول أهلها مواساتها حتى لا تنكسر، ولكنها أدركت الفشل، وماتت فيها المرأة التي كانتها، وولدت أخرى من نوع مختلف، امرأة صلبة، لا تؤمن بالعواطف كثيرا.
ولكنها فكرت في الأمر طويلا، فهو كان من طينة مغايرة لطينتها، رجل صلب القلب كالحجر، وهي امرأة مرهفة فكيف لهما أن يتفقا. كان هو لا يقدر على الاعتراف بها كشخص يشاركه، وكانت هي تتنازل عن كل شيء، وأدركت أنهما ضدان، شخصان سارا جزءا من الطريق فإذا هما غير قادرين على الإستمرار، فطلقها. هذا كل ما في الأمر.
ومع هذا، شعرت بالإهانة، فلو أنه طلقها ثم تزوج لكان الأمر هينا، ولكنه أرضى غروره أولا، ثم رماها خرقة بالية، وأحست بالحقد نحوه، ثم شعرت بالراحة إذ كان كذلك، شخصا تافها لا يناسبها، ونسيته مع أول فرصة.
* * *
عاد صالح من سفره ليلا، وراح يزيد من سرعة الشاحنة ويتوهم أنه لن يصل بلدته إلا فجراً. كان يسوق باضطراب رغم انه تمرن شهرا كاملا مع سي حمو، أعطاه خلاله خبرته، وبعضا من وساوسه، وانتابته أحاسيس مبهمة، ثم انحرفت به الشاحنة عن الطريق وفقدت توازنها، ولم يفق إلا وهو في العراء على أرض موحلة، وحاول أن يعيد الشاحنة إلى الطريق، ولكن العجلات كانت قد غرقت في الوحل، فنزل وجلس القرفصاء أمام الشاحنة، ثم صعد ثانية وأضاء المصابيح، ونزل ومعه مصباح يدوي أخذ يسدده على العجلات التي غاصت في الوحل كثيرا . ولما أعيته الحيلة، خرج إلى الطريق وحاول أن يطلب نجدة ، ولكنه فشل أيضا، كانت السيارات القليلة تمر عليه بسرعة ولا تتمهل، فعاد إلى الشاحنة وبه غيظ شديد.
نظر إلى السماء المرصعة فوقه، ثم زفر زفرة من أعماقه، وشغل المذياع، وعاد ينظر إلى السماء الوحيدة ، ثم مال إلى المقود ولبث يستمع، وفجأة حزم أمره، فأدار المفتاح وشغل المحرك وضغط على المسرعة وإذا بالشاحنة تنطلق. فقادها بتؤدة حتى أعادها إلى الطريق، وعندئذ أطفأ المحرك والمذياع ولبث يلهث وقتا لا يعرفه.
ولما هدأ، شغل المحرك وأضاء المصابيح وواصل سيره، شغل المذياع مرة أخرى وكانت أغنية تدندن منه، وفجأة انقطعت وبرز عوضا عنها صوت يقول:
- رئيس الجمهورية يستقيل.
ولم ينتبه إلا لهاتين الكلمتين، فقد نفذ الذهول إليه وشعر بنفسه باردا وبأسئلة تنخره: لماذا يستقيل في هذا الظرف بالذات؟ ولمن هذا الوطن كله؟ ولم يدر لم تخيل صورة البلد الشاسعة عندئذ،وخوف وإرهاق يحاصره، وأسئلة كثيرة لم يجد لها جوابا.
شعر بالفراغ يحيط به، فقضى الطريق بأكمله يفكر، فلماأن كاد يصل بلدته، رأى الطريق التي تؤدي إليها خالية على غير العادة ، فأوجس في نفسه خيفة ، ثم دخل البلدة فألفى شوارعها خالية أيضا ، ولم يعرف ما الذي حدث ، فسأل الحارس الذي فتح له البوابة ولكنه لم يكن على علم بشيء .
وفي الغد لما استيقظ من نومه متأخرا، قال له والده:
- ألزم بيتك ولا تخرج، بدأ أمر لا محيص منه.
كانت الأزمة قد بدأت، فوجد صالح نفسه في وضع جديد لم يحسب حسابه، شعر أن تيارا هائلا يجرفه، وأن ما كان يتخيله شيئا ثابتا هو في الواقع وهم ليس إلا، ولكنه وهم يبعث في نفسه ألما. شيء ما يحدث أو على أهبة الحدوث ولا أحد يقدر على وعيه، شيء عظيم أكبر من كل العقول الصغيرة التي كانت تصنعه، واضطربت البلدة، وغدا كل شيء كئيبا.ومنذ ذلك الحين، سيطر الرعب على الناس، وخيم الخوف على البلدة، ولم يعد أحد يثق في أحد...
* * *
بعد هذا بأيام أصابت صالح خيبة كبيرة، أحس أن الأمور انفلتت ولم يعد بقدرة أحد أن يسيطر عليها، وفي تلك الليلة استيقظ فزعا على صوت ظن أنه يسمعه، فأضاء المصباح ونظر إلى الساعة. كانت تشير إلى الثانية، فظن أن ما سمعه مجرد حلم مزعج.
وألقى برأسه على الوسادة ونظر إلى السقف المبلط بعينين نصف مغمضتين، وشيئا فشيئا، أخذ النعاس يدب إليه، وهو يتخيل صورا مشوشة لوجوه رآها أو أصوات متداخلة. أصوات طلبات الزبائن الكثيرة، أو أحاديثا يتلقفها من الناس حول الحوادث الكثيرة، أو خليطا من كل ذلك، وأحس أنه في منطقة ما بين النوم واليقظة، فمد يده إلى المصباح ليطفئه، وكاد يعيدها إلى دفء الغطاء لما باغته طلق ناري عنيف، فانتفض من نومه، وهزه طلق آخر متواصل مزق سمعه. الآن عرفه وهو يسمعه في كامل وعيه، وقد تأهب وانتفض وسرت في جسده رعدة غريبة، وقفز من فراشه ودنا من النافذة وأصغى جيدا، فتوقف الطلق لحظة ثم عاد بقوة أشد صرامة، وخرج إلى الرواق فوجد أمه تطل من غرفتها واضعة يدها على فمها وفي عينيها استفهام ممزوج بحيرة، وسرعان ما تبعها والده ثم أختاه بعد أن صعدتا من الدور السفلي وهما خائفتين، وقال والده:
-هذا اشتباك ولا ريب.
فأجابته العجوز:
- أسكت يا رجل.
وسمعوا حركات في منزل الجيران وصراخ طفل وخرخشة كخرخشة الجرذان، وعاد الرصاص مجددا ومزق السكون الذي خيم لحظة، ثم اختفى بالكامل، تاركا مساحة من هدوء مرعب، لم ينقشع حتى الصباح.
وقضوا ما تبقى من الليل مستيقظين، وفي الرابعة عادوا إلى غرفهم، ثم استيقظوا في السابعة ، فأعدت فضيلة قهوة ، وقال الشيخ:
- لا شك عندي إنه اشتباك.
فصرخت العجوز بصوت خافت به حدة، ضاغطة بيدها خديها المجعدين، ثم قالت:
-هل تخرف يا رجل؟
فقال صالح:
-لا يخرف يا أمي، إنه اشتباك.
-يا خوفي.. هل سنقتل؟
فقال الشيخ:
- ما بك يا امرأة. كيف نقتل، نحن لا نهتم إلا بشأننا.
ورفع يده كأنما يبرئ نفسه، ثم التفت إلى صالح وأضاف:
-أوصيك يا ولدي أن تحذر .
ثم أردف:
- أصمت، ولا تتحدث في هذا الأمر لأحد.ولا تصاحب الذين يثرثرون. أفهمت؟
- ومن أصاحب يا أبي. ليس عند إلا سي حمو صاحب الدكان أتحدث معه في أمور العمل.
- واقطع أسفارك إلى الولاية هذه، فالطريق خطيرة.
- ولكن من يسوق الشاحنة غيري؟
- اترك العمل إذا استلزم الأمر، لن تعدم عملا آخر.
وصرخت أمه:
- ماذا دهاك. من أين له بعمل آخر؟ البلد تموج وأنت نائم.
- اقطع أسفارك هذه، أو.. جد طريقة أخرى.
وقال صالح:
­ حسنا.
وهدءوا لحظات، شعر خلالها صالح أن له أشخاص يحبونه ويحفظونه، فعاد إلى غرفته مطمئنا، ولبث هناك حتى التاسعة. وترقب الحذر الذي بدأ، ثم أصغى لقطرات مطر تتساقط على الرصيف الذي لا يفصله عنه إلا جدار. ولم يسمع وقع خطوات أو صفق أبواب كعادته، ولم يمر في شارعه غير سيارتين، ظنهما من السيارات التي تقل تلاميذ المدارس من القرى المجاورة، غير عارفة بما حدث، أو سيارات مجهولة لا يمكن الوثوق بها بعد الآن.
وفي العاشرة خرج الناس إلى الشوارع، وازدحمت المقاهي وعاد كل شيء إلى طبيعته. هؤلاء الناس من كثرة ما عاشوا الموت اتخذوه صديقا، ولم يعودوا يأبهون به، بل خرجوا إلى الشوارع مستطلعين، وفي الحادية عشرة لم يبق في البلدة أحد غير عارف بما حدث.
كان اشتباك قد وقع في حي أسفل البلدة، والذين بكروا في الخروج رأوا آثار الرصاص، ودماء مسفوكة، وأربعة جثث ممددة في الشارع، وواحد منهم لم يزل يحبو على الأرض حتى فارق الحياة، بعد أن خلف وراءه ذيلا طويلا من دماء. وتناقل الناس الحدث عبر المقاهي، وأضافوا إليه من أوهامهم حتى بدا أسطورة أو فيلما من الأفلام، وكان مما أضافوه أن الضحايا كانوا عشرة، وأن سيارتين محترقتين نقلتا ليلا إلى مكان مجهول، وتكلم أناس كثيرون كلهم رأوا الاشتباك بأم أعينهم، فزادوا وأنقصوا حتى أصبح لكل حي من أحياء البلدة نسخة عما حدث.
هؤلاء الناس واهمون، فقد ظنوا أن الأمر قد انتهى لما ساد الهدوء قليلا، ولكنهم كانوا يستيقظون في كل مرة على خوف وقتل ودماء، وأجواء جديدة لم يعتقدوا يوما أنهم سيجدون أنفسهم فيها.
هم هكذا منذ بدأ العنف، البعض منهم رحل من البلدة، والبعض الآخر نزح إليها من القرى المجاورة، البعض مات والبعض جن والبعض اعتقل، وفي كل مرة مزيد من ضحايا وأبواب مسدودة، ويأس لا يقاوم، كأن الأزمة شيء مستحيل الحل، كأن الموت قبضة من حديد تمسك الناس وتقطع أنفاسهم، كأنه شيء لا يصدق.
عمر مناصرية- عضو جديد
- عدد الرسائل : 23
نقاط : 25
تاريخ التسجيل : 06/12/2008
في الا هتمام بالشكل ..والخط :ملاحظات واجبة
حملنا الأخ الكاتب والروائي عمر مناصرية بقلمه بعيدا عبر قصته الشائقة والشائكة في نفس الوقت
لست بصدد تقويم العمل الفني الجميل ولكن احببتُ فقط أن انبه الى أمر شكلي ولكنه مهم ، بالنسة للاخ عمر وعموم الاخوة والأخوات في المنتدى .ارجو الكتابة بخط أكبر قليلا والعناية بالشكل العام للموضوع
وهذا متاح تماما من خلال التحكم في لوحة الاخ العضو
سواء بالنسة للموضوعات التي يكتبها الاخوة الاعضاء او الموضوعات المفيدة المنقولة من اماكن أخرى
ليثق الجميع أن كل ما في المنتدى يُقرأ ، ورب فوائد عظيمة في مقال او مساهمة قد تضيع بسبب الخط الرقيق جدا، او الشكل الذي قد يصرف المتصفح عن القراءة اصلا .واقول هذا عن تجربة ..بارك الله فيكم
مزيدا من الامتاع المنتج اخي عمر ..وارجو ان تكاتبي على عنواني لأمر يخص موقع ضفاف الابداع
ومسائل أخرى ...
لست بصدد تقويم العمل الفني الجميل ولكن احببتُ فقط أن انبه الى أمر شكلي ولكنه مهم ، بالنسة للاخ عمر وعموم الاخوة والأخوات في المنتدى .ارجو الكتابة بخط أكبر قليلا والعناية بالشكل العام للموضوع
وهذا متاح تماما من خلال التحكم في لوحة الاخ العضو
سواء بالنسة للموضوعات التي يكتبها الاخوة الاعضاء او الموضوعات المفيدة المنقولة من اماكن أخرى
ليثق الجميع أن كل ما في المنتدى يُقرأ ، ورب فوائد عظيمة في مقال او مساهمة قد تضيع بسبب الخط الرقيق جدا، او الشكل الذي قد يصرف المتصفح عن القراءة اصلا .واقول هذا عن تجربة ..بارك الله فيكم
مزيدا من الامتاع المنتج اخي عمر ..وارجو ان تكاتبي على عنواني لأمر يخص موقع ضفاف الابداع
ومسائل أخرى ...
رد: حزن آخر(8)
شكرا جزيلا أستاذ حسن ، وبارك الله لك في الملاحظة الطيبة، أحاول دائما أن أغير حجم الخط ولكن الحاسوب الذي عندي ربما لا يستجيب، وعلى كل سأحاول هذه المرة أيضا ، دمت بخير ورمضان كريم
أخوكم عمر .م
أخوكم عمر .م
عمر مناصرية- عضو جديد
- عدد الرسائل : 23
نقاط : 25
تاريخ التسجيل : 06/12/2008
ضفاف الإبداع :: الفـــــكر و الأدب و الثقافة و الفن :: ضــــفــــــ الســــــــرديــــــــــــــات ـــــــاف
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الجمعة أبريل 12, 2024 4:10 pm من طرف سعداوي ربيع
» المتألقه ياسمين ابراهيم
الثلاثاء أكتوبر 10, 2023 8:54 pm من طرف سعداوي ربيع
» إستمتع بخدمة ultimate game pass لجهاز الإكسبوكس و الحاسوب
الخميس نوفمبر 24, 2022 10:35 pm من طرف lmandoo
» ربيع المؤمـــــــــــــــــــن
الثلاثاء نوفمبر 08, 2022 8:11 am من طرف سعداوي ربيع
» مشروع واحة الشاطيء شقق للبيع في مدينة دبي للاستديوهات
الخميس نوفمبر 03, 2022 9:21 pm من طرف lmandoo
» شركة حلول ميج للاستشارات وتطوير الأعمال
الثلاثاء أكتوبر 18, 2022 11:26 am من طرف lmandoo
» نانا اليوم اقوى الخصومات على كل المنتجات
الأربعاء أكتوبر 12, 2022 11:28 pm من طرف lmandoo
» مرام مالك فنانة غنائية سعودية
الإثنين سبتمبر 05, 2022 5:12 am من طرف lmandoo
» موقع تعليمي سعودي لتغطية كافة المناهج
الخميس أغسطس 25, 2022 11:44 pm من طرف lmandoo
» يونيريم للرعاية المنزلية UNIREM Home Care
الأربعاء أغسطس 17, 2022 3:49 am من طرف lmandoo
» ايه افضل بيوتى صالون فى حدئق الاهرام واكتوبر وزايد
السبت أغسطس 13, 2022 3:57 am من طرف lmandoo
» اشطر جراح عام دكتور عبد الوهاب رأفت
السبت أغسطس 13, 2022 2:21 am من طرف lmandoo
» اشطر جراح عام دكتور عبد الوهاب رأفت
الثلاثاء أغسطس 09, 2022 1:47 am من طرف lmandoo
» ايه افضل بيوتى صالون فى حدئق الاهرام واكتوبر وزايد
الثلاثاء أغسطس 09, 2022 1:37 am من طرف lmandoo
» مصممة الازياء رنا سمعان من نينوى العراق إلى العالمية
الإثنين أغسطس 08, 2022 3:45 am من طرف lmandoo