مـــــــــــــــــــــواعظ
من فضل الله على عباده تتابع مواسم الخيرات ومضاعفة الحسنات فالمؤمن يتقلب في ساعات عمره بين أنواع العبادات والقربات فلا يمضي من عمره ساعة إلا ولله فيها وظيفة من وظائف الطاعات وما أن يفرغ من عبادة إلا ويشرع في عبادة أخرى ولم يجعل الله حدا لطاعة العبد إلا انتهاء عمره وانقضاء أجله.
وبعد ان اتم الله لنا نعمة اكمال شهر الصيام والقيام ورتب عليه عظيم الأجر والثواب صيام ست أيام من شوال التي ثبت في فضائلها العديد من الأحاديث منها ما رواه الإمام مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال : ( من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر
المواضيع الأخيرة
بطاقات اسلامية
أدعية رمضانــــــــــية
المـنهج السيـاقي ودوره في فهم” النص” وتـحديـد دلالات الألـفاظ.. مع نمـاذج تطبيقــية من القرآن الكريـــم
صفحة 1 من اصل 1
المـنهج السيـاقي ودوره في فهم” النص” وتـحديـد دلالات الألـفاظ.. مع نمـاذج تطبيقــية من القرآن الكريـــم
المـنهج السيـاقي ودوره في فهم” النص” وتـحديـد دلالات الألـفاظ.. مع نمـاذج تطبيقــية من القرآن الكريـــم
بقلم:الدكتور مسعود صحراوي*
سنحاول في هذه المقالة التعريف بأداة معرفية/إجرائية حديثة توفرَ لها قدرٌ هام من “الكفاية العلمية” الضرورية في اللسانيات المعاصرة وعلم الدلالة الحديث…فحققت نجاحا معتبرا في دراسة النصوص على اختلاف أنساقها المعرفية في حقول العلوم الإنسانية المختلفة، وهذه الأداة المنهجية هي “السياق”، وسنحاول ربط هذا المفهوم الإجرائي بأصول علمية إجرائية قال بها علماؤنا القدامى ووظفوها في فهمهم لـ”دلالات اللفظ” في النص العربي عموما وللنص القرآني خصوصا، إثراء للمعرفة الإنسانية عامة وإبرازا لدور علمائنا الأجلاء في تأطير معارف عصرهم، ولأصالة بحثهم، وسنضرب أمثلة تطبيقية من نص الكتاب العزيز تُظهر كيف يكون للسياق دور قوي في فهم معاني الألفاظ القرآنية وضبط دلالاتها.
الإطار المفاهيمي
ولما كان “السياق” مرتبطا ارتباطا قويا بـ”النص” لأنه مجاله الذي يطبق فيه، فإننا نرى أنه من المناسب أن نُعرّف بمفهومين أساسيين تدور عليهما محاور هذه المقالة، وهما: النص والسياق. وسنحاول التبسيط والاختصار الشديد في ذلك نزولا عند مقتضى الحال…
1- النص: من المعلوم أن المراد بمصطلح “النص” في المعرفة اللسانية المعاصرة غير المراد به في تراثنا العربي الإسلامي؛ فالمعاصرون يعرّفونه بأنه مجموعة من الأحداث الكلامية ذات معنى وغرض تواصلي، تبدأ وجودها من مرسل للحدث اللغوي وتنتهي بمتلق له، ومؤهلة لأن تكون خطابا، أي أن توجَّه إلى شخص بعينه(1)، ومن ثَمَّ فهم يشترطون وحدة موضوع النص ووحدة مقصده(2). و”النص”، في تصور كثير من المعاصرين، يتجاوز الكينونة اللغوية المحدودة ولا ينحصر في مقولات اللغة على الرغم من أنه متشكل منها، بل يراعي الواقع الخارجي، ومن ثَمَّ فإن النص هو المعادل اللغوي للواقع الإنساني والكوني.
أما العلماء العرب المسلمون القدامى – ولا سيما الأصوليين- فقد كان لمصطلح النص عندهم مفهوم آخر فتحدثوا في “النص” بعبارات كثيرة أشهرها ما ذكره الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت 204 هـ) بأنه “هو المستغني بالتنـزيل عن التأويل”(3) أي هو الكلام الذي لا يحتمل تفسيرا أو تأويلا لأن ظاهره يغني عن كل ذلك، وهو الذي أبانه الله لخلقه نصا ظاهرا بينا. ويبدو أن تعريف الشافعي هذا قد لقي قبولا لدى علمائنا القدامى فرددوه من بعده، ولا سيما الإمام الغزالي (ت 505 هـ) وابن حزم (ت 456 هـ) وغيرهما… ولم يخالفوه إلا في بعض الجزئيات(4)… وواضحٌ أننا لا نقصد هنا ما ذهب إليه أسلافنا، وإنما نريد بـ”النص” مفهومه اللساني الحديث كما يطلقه اللسانيون المعاصرون وكما أنضجه لغويو المدرسة الألمانية وغيرها، من أمثال: دراسلر W. Dressler وبتوفي Petôfi ودو بوغراند Robert De Beau grande وفان دايك T.A Van Dijk وغيرهم…
وعليه فإن “لسانيات النص” – Linguistique Textuelle -كما نقول في المغرب الكبير أو /”علم لغة النص”/ كما يقول إخواننا المشارقة- هي علمٌ ناشئٌ وحقلٌ معرفي جديد تكوّن بالتدريج في السبعينيات من القرن العشرين، وبرز بديلا نقديا لنظرية الأدب الكلاسيكية التي توارت في فكر “الحداثة” و”ما بعد الحداثة”، وراح هذا العلم الوليد يطوّر من مناهجه ومقولاته حتى غدا “أهمّ وافدٍ” على ساحة الدراسات اللسانية المعاصرة، وقد نشأ على أنقاض علوم سابقة له كـ”لسانيات الجملة” و”اللسانيات النَّسَـقية” و”الأسلوبية”، ثم انطلق من معطياتها وأسس عليها مقولات جديدة، وهو قريب جدا من صنوه “تحليل الخطاب”، غير أن هذا الفرع الأخير يقوم على أساس التحليل البنيوي، أما فرع “لسانيات النص”- حتى وإن استثمر جميع النظريات اللسانية السابقة عليه- فهو يقوم في الأعم الأغلب على أساس التحليل التداولي، وأهم ملمح في لسانيات النص أنه غني متداخل الاختصاصاتInter-disciplinaire يشكِّل محور ارتكاز عدة علوم، ويتأثر دون شك بالدوافع ووجهات النظر والمناهج والأدوات والمقولات التي تقوم عليها هذه العلوم.
وأما في التراث العربي فقد بحث بعض علمائنا في “النص” ونظّروا له ولم يتوقفوا عند التنظير للجملة كما يحلو لبعضهم أن يردد؛ فمن علمائنا الذين قدموا إسهاما علميا ناضجا (في مجال التنظير والتطبيق النصي) الإمام عبد القاهر الجرجاني (ت 471 هـ) في “نظرية النظم” (كتاب: دلائل الإعجاز)، وتبرز قيمته “النصية” في أنه جمع بين علوم كثيرة كـ”النحو” و”علم المعاني” و”علم البيان” و”التفسير” و”دلالة الألفاظ” و”المعجمية” و”المنطق”… وألّف بين أشتاتها في تناغم عجيب واتخذ منها أدوات معرفية متضافرة على تحقيق هدف واحد هو: خدمة النص القرآني وبيان إعجازه. وقد كانت فكرة “الانسجام النصي” (Cohérence textuelle) واضحة في ذهن عبد القاهر وضوحا متميزا حتى إننا نجده يعبر عنها بقوله: “واعلم أن مَثَلَ واضعِ الكلامِ مَثَلُ من يأخذ قطعا من الذهب أو الفضة فيذيبُ بعضَها في بعض حتى تصير قطعة واحدة…”(5) وهذا يدل على أن بنية النص في تصور عبد القاهر الجرجاني تصل إلى مرتبة “الصهر” الذي هو أعلى درجات “التشكيل”.
ومنهم جمهور علماء أصول الفقه، ولا سيما الذين بحثوا منهم في حقليْ “دلالات الألفاظ” و”معاني الأساليب وما يترتب عليها من قواعد وأحكام”(6)، وتعرضوا للثنائيات الدلالية التي وضعوها تحت عناوين: العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمفصل، والمحكم والمتشابه(7) … فقد كان السادة الأصوليون جامعين للشروط العلمية والأدوات التحليلية التي تحققت لها “كفاية علمية” ممتازة في البحث النصي. وهذه الثنائيات تشمل الشروط الجوهرية والوظيفية والمعرفية للنص القرآني الكريم… وليس المقام مناسبا لتفصيل الكلام في ذلك. ومنهم صنفٌ آخر، هم المفسرون، والذين قاموا بجهود كبيرة في “تحليل” النص القرآني كلٌّ على طريقته؛ فقد سلكوا إلى فهمه طرائق منهجية شتى أهمها طريقة “السياق” كما سنذكر لاحقا. ولكن المفسرين يتفاوتون في الأدوات المعرفية المعتمدة بين أثرية ولغوية ومنطقية…
وقد أدرج علماؤنا القدامى- ضمن مفاهيم النص- مفهوم “القصد” وهو الغرض الذي يبتغيه المتكلم من الخطاب و”الفائدة” التي يرجو إبلاغها للمخاطَب، فلن يكون هناك “نص” ولا “خطاب” دون “قصد”، وهذا نفسه ما يركز عليه المعاصرون حين يرفعون من شأن “القصدية Intentionnalité” في كلام المتكلم، وخصوصا كما فعل الفيلسوفان المعاصران ج. ل. أوستين Austin وتلميذه ج. سيرل Searle، في “نظرية الأفعال الكلامية” التي هي أهم مفهوم من مفاهيم “التداولية” وأفضل إنجازاتها، وقد استعارا هذا المفهوم من الفيلسوف الظاهراتي إدموند هوسرل E. Husserl.
2- السياق: أشار علماؤنا القدامى إلى قاعدة ذهبية مضمونها أن أفضل طريقة للتفسير هي تفسير القرآن بالقرآن(، وتعد هذه الملاحظة، في رأينا، إشارة إلى منهج قويم في “علم الدلالة Sémantique” والذي أصبح يعرف اليوم بـ”المنهج السياقي”، وهو المنهج الذي جعل للسياق الدور الحاسم في فهم النصوص وتحديد معاني الألفاظ وضبط دلالاتها، فقد اتفق اللسانيون المعاصرون على أن علاقة الكلمة مع الكلمات الأخرى في “النص/ الخطاب” هي التي تحدد معناها، وصرح زعيم المدرسة السياقية فيرث Firth بأن المعنى لا ينكشف إلا من خلال “تسييق الوحدة اللغوية”(9)، أي وضعها في سياقات مختلفة، وعليه فإن دراسة دلالات الكلمات تتطلب تحليلا للأنماط السياقية والطبقات المقامية التي ترد فيها، فمعنى الكلمة يتحدد وفق السياقات التي ترد فيها(10).
وقد كان علماؤنا القدامى مدرِكين لأهمية السياق في تحديد المعنى وواعين بدوره الحاسم في توجيه دلالات العلامات اللغوية ولا سيما في نص القرآن الكريم؛ فقد صرح ابن قيّم الجوزية (ت 751 هـ) أن السياق “يرشد إلى تبيين المجمل وتعيين المحتمل والقطع بعدم احتمال غير المراد وتخصيص العام وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة… وهذه من أكبر القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره وغالط في مناظرته”(11). نجد في هذا النص الهام إشارة إلى أمرين:
* مفهوم “السياق الأصغر أو “السياق الخاص” للنص القرآني، ودوره في تحديد الدلالة.
* علاقة التكامل الوظيفي/الدلالي بين السياقين “الأصغر والأكبر”، إذ كثيرا ما يفسَّر أحدهما بالآخر، أي يفسّر سياق بسياق.
والأول (السياق الأصغر) محدود ضمن وحدات دلالية أو تركيبية معينة/ كالآية القرآنية مثلا، أو ما يسبق الآية وما يلحقها من الكلمات أو الآيات، بينما الثاني (السياق الأكبر) شامل لما بين دفتي المصحف لا تحده فواصل الآيات والسور والأجزاء، وهو نوعان:
- الأول يراد به النص القرآني في كينونته الكلية الشاملة، ومراعاةُ هذا النوع أمرٌ هام جدا، وهو الذي أشار إليه علماؤنا بقولهم: فما أُجمِلَ منه في موضع فقد فُسر في موضع آخر.
- ونوع يندرج ضمنه ما سموه “علم المناسبة” أي مناسبة أواخر السورة المتقدمة لأوائل السورة التي تليها. والمناسبة هي المشاكلة والمقاربة والشبه، ومرجعها في آيات القرآن إلى معنى رابط بينها، عام أو خاص، عقلي أو حسي أو غير ذلك(12)…
ونجد في تراثنا عددا كبيرا من العلماء ممن يعتنون بالسياق الأصغر ويعتدّون به في تحديد الدلالة ويتغافلون عن السياق الأكبر، ولكن الأصل في القرآن أنه منسجم متناسب آخذ بعضه برقاب بعض، وعلى الرغم مما قد يوجد من استثناءات توحي بعدم المناسبة فإنه حقٌّ على المفسر أن يتطلب مناسبات لمواقع الآيات ما وجد إلى ذلك سبيلا موصلا(13)، ولكن عليه أن يتفادى التكلُّف في ذلك.
ومن قبلِ ابنِ القيم بقرون كان الأصوليون والمفسرون قد تنبهوا مبكرا إلى ذلك؛ فالإمام الشافعي ذكر مصطلح “السياق” في “رسالته” وتنبه إلى دوره في تحديد دلالات الألفاظ القرآنية وتفصيل مجملها وتخصيص عامّها، ولعله هو أول من استعمله – من علمائنا القدامى- استعمالا اصطلاحيا مدققا، وقد أحسن الشافعي استثمار هذه الأداة ولا سيما في التفريق بين نمطين نصيين هامين تعبر عنهما الثنائية الدلالية: العام والخاص، وهي من الثنائيات التي جعلوا معرفتها من أجلِّ علوم القرآن كما صرّح الزركشي.
ومما ينم عن فهم علمائنا للسياق ودوره في بيان معنى دقيق أو تخصيص نص مطلق أو تبيان ما أشكل فيه الغرض والقصد أنهم يمتاحون من معطيات السياق ويعتضدون به مطمئنين إلى كفايته الإجرائية حتى قال قائلهم: “من أراد تفسير الكتاب العزيز طلبه أولا من القرآن، فما أُجمل منه في موضع فقد فُسر في موضع آخر”(14) وهي إشارة بليغة “للسياق الأكبر أو العام” للنص القرآني، وهو الإجراء الذي تسمية البنيوية المعاصرة “الناظم المنهجي” أو الذي تسميه بعض مدارسها “الرؤية المنبثقة”، وهذا يقتضي أن المعنى (أو الدلالة) ينبثق من داخل النص ولا يفرض عليه من الخارج…
وقد أخذ بالمنهج السياقي في التفسير جمعٌ من المفسرين في مقدمتهم إمام المفسرين ابن جرير الطبري الذي “جمع بين الرواية والدراية… فهو يسرد الأقوال ويناقشها ويبين أولاها بالصواب، أو يرى رأيا آخر في الآية”(15)، وكثيرا ما يحتكم إلى السياق الخاص أو العام(16)، ومنهم فخر الدين الرازي في “مفاتيح الغيب”، ومنهم جار الله الزمخشري في “تفسير الكشاف”، ومن المحدثين محمد الطاهر ابن عاشور في تفسير “التحرير والتنوير”… ونشير إلى أن حديث علمائنا الأجلاء عن السياق لا يمكن الإحاطة به في هذا المقام لكثرته وغناه. غير أنه قد يؤخَذ على مفسرينا وعلمائنا أنهم لا يلتزمون بالسياق دائما على الرغم من وعيهم بدوره في التفسير، كما قلنا، ولعل ذلك راجع إلى تعدد الأدوات المعرفية التي استخدموها في التحليل، إذ لم يكن السياق هو الأداة المنهجية المهيمنة بل كانت تزاحمها أدوات أخرى من العلوم الأثرية والمنطقية …
يتبع
بقلم:الدكتور مسعود صحراوي*
سنحاول في هذه المقالة التعريف بأداة معرفية/إجرائية حديثة توفرَ لها قدرٌ هام من “الكفاية العلمية” الضرورية في اللسانيات المعاصرة وعلم الدلالة الحديث…فحققت نجاحا معتبرا في دراسة النصوص على اختلاف أنساقها المعرفية في حقول العلوم الإنسانية المختلفة، وهذه الأداة المنهجية هي “السياق”، وسنحاول ربط هذا المفهوم الإجرائي بأصول علمية إجرائية قال بها علماؤنا القدامى ووظفوها في فهمهم لـ”دلالات اللفظ” في النص العربي عموما وللنص القرآني خصوصا، إثراء للمعرفة الإنسانية عامة وإبرازا لدور علمائنا الأجلاء في تأطير معارف عصرهم، ولأصالة بحثهم، وسنضرب أمثلة تطبيقية من نص الكتاب العزيز تُظهر كيف يكون للسياق دور قوي في فهم معاني الألفاظ القرآنية وضبط دلالاتها.
الإطار المفاهيمي
ولما كان “السياق” مرتبطا ارتباطا قويا بـ”النص” لأنه مجاله الذي يطبق فيه، فإننا نرى أنه من المناسب أن نُعرّف بمفهومين أساسيين تدور عليهما محاور هذه المقالة، وهما: النص والسياق. وسنحاول التبسيط والاختصار الشديد في ذلك نزولا عند مقتضى الحال…
1- النص: من المعلوم أن المراد بمصطلح “النص” في المعرفة اللسانية المعاصرة غير المراد به في تراثنا العربي الإسلامي؛ فالمعاصرون يعرّفونه بأنه مجموعة من الأحداث الكلامية ذات معنى وغرض تواصلي، تبدأ وجودها من مرسل للحدث اللغوي وتنتهي بمتلق له، ومؤهلة لأن تكون خطابا، أي أن توجَّه إلى شخص بعينه(1)، ومن ثَمَّ فهم يشترطون وحدة موضوع النص ووحدة مقصده(2). و”النص”، في تصور كثير من المعاصرين، يتجاوز الكينونة اللغوية المحدودة ولا ينحصر في مقولات اللغة على الرغم من أنه متشكل منها، بل يراعي الواقع الخارجي، ومن ثَمَّ فإن النص هو المعادل اللغوي للواقع الإنساني والكوني.
أما العلماء العرب المسلمون القدامى – ولا سيما الأصوليين- فقد كان لمصطلح النص عندهم مفهوم آخر فتحدثوا في “النص” بعبارات كثيرة أشهرها ما ذكره الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت 204 هـ) بأنه “هو المستغني بالتنـزيل عن التأويل”(3) أي هو الكلام الذي لا يحتمل تفسيرا أو تأويلا لأن ظاهره يغني عن كل ذلك، وهو الذي أبانه الله لخلقه نصا ظاهرا بينا. ويبدو أن تعريف الشافعي هذا قد لقي قبولا لدى علمائنا القدامى فرددوه من بعده، ولا سيما الإمام الغزالي (ت 505 هـ) وابن حزم (ت 456 هـ) وغيرهما… ولم يخالفوه إلا في بعض الجزئيات(4)… وواضحٌ أننا لا نقصد هنا ما ذهب إليه أسلافنا، وإنما نريد بـ”النص” مفهومه اللساني الحديث كما يطلقه اللسانيون المعاصرون وكما أنضجه لغويو المدرسة الألمانية وغيرها، من أمثال: دراسلر W. Dressler وبتوفي Petôfi ودو بوغراند Robert De Beau grande وفان دايك T.A Van Dijk وغيرهم…
وعليه فإن “لسانيات النص” – Linguistique Textuelle -كما نقول في المغرب الكبير أو /”علم لغة النص”/ كما يقول إخواننا المشارقة- هي علمٌ ناشئٌ وحقلٌ معرفي جديد تكوّن بالتدريج في السبعينيات من القرن العشرين، وبرز بديلا نقديا لنظرية الأدب الكلاسيكية التي توارت في فكر “الحداثة” و”ما بعد الحداثة”، وراح هذا العلم الوليد يطوّر من مناهجه ومقولاته حتى غدا “أهمّ وافدٍ” على ساحة الدراسات اللسانية المعاصرة، وقد نشأ على أنقاض علوم سابقة له كـ”لسانيات الجملة” و”اللسانيات النَّسَـقية” و”الأسلوبية”، ثم انطلق من معطياتها وأسس عليها مقولات جديدة، وهو قريب جدا من صنوه “تحليل الخطاب”، غير أن هذا الفرع الأخير يقوم على أساس التحليل البنيوي، أما فرع “لسانيات النص”- حتى وإن استثمر جميع النظريات اللسانية السابقة عليه- فهو يقوم في الأعم الأغلب على أساس التحليل التداولي، وأهم ملمح في لسانيات النص أنه غني متداخل الاختصاصاتInter-disciplinaire يشكِّل محور ارتكاز عدة علوم، ويتأثر دون شك بالدوافع ووجهات النظر والمناهج والأدوات والمقولات التي تقوم عليها هذه العلوم.
وأما في التراث العربي فقد بحث بعض علمائنا في “النص” ونظّروا له ولم يتوقفوا عند التنظير للجملة كما يحلو لبعضهم أن يردد؛ فمن علمائنا الذين قدموا إسهاما علميا ناضجا (في مجال التنظير والتطبيق النصي) الإمام عبد القاهر الجرجاني (ت 471 هـ) في “نظرية النظم” (كتاب: دلائل الإعجاز)، وتبرز قيمته “النصية” في أنه جمع بين علوم كثيرة كـ”النحو” و”علم المعاني” و”علم البيان” و”التفسير” و”دلالة الألفاظ” و”المعجمية” و”المنطق”… وألّف بين أشتاتها في تناغم عجيب واتخذ منها أدوات معرفية متضافرة على تحقيق هدف واحد هو: خدمة النص القرآني وبيان إعجازه. وقد كانت فكرة “الانسجام النصي” (Cohérence textuelle) واضحة في ذهن عبد القاهر وضوحا متميزا حتى إننا نجده يعبر عنها بقوله: “واعلم أن مَثَلَ واضعِ الكلامِ مَثَلُ من يأخذ قطعا من الذهب أو الفضة فيذيبُ بعضَها في بعض حتى تصير قطعة واحدة…”(5) وهذا يدل على أن بنية النص في تصور عبد القاهر الجرجاني تصل إلى مرتبة “الصهر” الذي هو أعلى درجات “التشكيل”.
ومنهم جمهور علماء أصول الفقه، ولا سيما الذين بحثوا منهم في حقليْ “دلالات الألفاظ” و”معاني الأساليب وما يترتب عليها من قواعد وأحكام”(6)، وتعرضوا للثنائيات الدلالية التي وضعوها تحت عناوين: العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمفصل، والمحكم والمتشابه(7) … فقد كان السادة الأصوليون جامعين للشروط العلمية والأدوات التحليلية التي تحققت لها “كفاية علمية” ممتازة في البحث النصي. وهذه الثنائيات تشمل الشروط الجوهرية والوظيفية والمعرفية للنص القرآني الكريم… وليس المقام مناسبا لتفصيل الكلام في ذلك. ومنهم صنفٌ آخر، هم المفسرون، والذين قاموا بجهود كبيرة في “تحليل” النص القرآني كلٌّ على طريقته؛ فقد سلكوا إلى فهمه طرائق منهجية شتى أهمها طريقة “السياق” كما سنذكر لاحقا. ولكن المفسرين يتفاوتون في الأدوات المعرفية المعتمدة بين أثرية ولغوية ومنطقية…
وقد أدرج علماؤنا القدامى- ضمن مفاهيم النص- مفهوم “القصد” وهو الغرض الذي يبتغيه المتكلم من الخطاب و”الفائدة” التي يرجو إبلاغها للمخاطَب، فلن يكون هناك “نص” ولا “خطاب” دون “قصد”، وهذا نفسه ما يركز عليه المعاصرون حين يرفعون من شأن “القصدية Intentionnalité” في كلام المتكلم، وخصوصا كما فعل الفيلسوفان المعاصران ج. ل. أوستين Austin وتلميذه ج. سيرل Searle، في “نظرية الأفعال الكلامية” التي هي أهم مفهوم من مفاهيم “التداولية” وأفضل إنجازاتها، وقد استعارا هذا المفهوم من الفيلسوف الظاهراتي إدموند هوسرل E. Husserl.
2- السياق: أشار علماؤنا القدامى إلى قاعدة ذهبية مضمونها أن أفضل طريقة للتفسير هي تفسير القرآن بالقرآن(، وتعد هذه الملاحظة، في رأينا، إشارة إلى منهج قويم في “علم الدلالة Sémantique” والذي أصبح يعرف اليوم بـ”المنهج السياقي”، وهو المنهج الذي جعل للسياق الدور الحاسم في فهم النصوص وتحديد معاني الألفاظ وضبط دلالاتها، فقد اتفق اللسانيون المعاصرون على أن علاقة الكلمة مع الكلمات الأخرى في “النص/ الخطاب” هي التي تحدد معناها، وصرح زعيم المدرسة السياقية فيرث Firth بأن المعنى لا ينكشف إلا من خلال “تسييق الوحدة اللغوية”(9)، أي وضعها في سياقات مختلفة، وعليه فإن دراسة دلالات الكلمات تتطلب تحليلا للأنماط السياقية والطبقات المقامية التي ترد فيها، فمعنى الكلمة يتحدد وفق السياقات التي ترد فيها(10).
وقد كان علماؤنا القدامى مدرِكين لأهمية السياق في تحديد المعنى وواعين بدوره الحاسم في توجيه دلالات العلامات اللغوية ولا سيما في نص القرآن الكريم؛ فقد صرح ابن قيّم الجوزية (ت 751 هـ) أن السياق “يرشد إلى تبيين المجمل وتعيين المحتمل والقطع بعدم احتمال غير المراد وتخصيص العام وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة… وهذه من أكبر القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره وغالط في مناظرته”(11). نجد في هذا النص الهام إشارة إلى أمرين:
* مفهوم “السياق الأصغر أو “السياق الخاص” للنص القرآني، ودوره في تحديد الدلالة.
* علاقة التكامل الوظيفي/الدلالي بين السياقين “الأصغر والأكبر”، إذ كثيرا ما يفسَّر أحدهما بالآخر، أي يفسّر سياق بسياق.
والأول (السياق الأصغر) محدود ضمن وحدات دلالية أو تركيبية معينة/ كالآية القرآنية مثلا، أو ما يسبق الآية وما يلحقها من الكلمات أو الآيات، بينما الثاني (السياق الأكبر) شامل لما بين دفتي المصحف لا تحده فواصل الآيات والسور والأجزاء، وهو نوعان:
- الأول يراد به النص القرآني في كينونته الكلية الشاملة، ومراعاةُ هذا النوع أمرٌ هام جدا، وهو الذي أشار إليه علماؤنا بقولهم: فما أُجمِلَ منه في موضع فقد فُسر في موضع آخر.
- ونوع يندرج ضمنه ما سموه “علم المناسبة” أي مناسبة أواخر السورة المتقدمة لأوائل السورة التي تليها. والمناسبة هي المشاكلة والمقاربة والشبه، ومرجعها في آيات القرآن إلى معنى رابط بينها، عام أو خاص، عقلي أو حسي أو غير ذلك(12)…
ونجد في تراثنا عددا كبيرا من العلماء ممن يعتنون بالسياق الأصغر ويعتدّون به في تحديد الدلالة ويتغافلون عن السياق الأكبر، ولكن الأصل في القرآن أنه منسجم متناسب آخذ بعضه برقاب بعض، وعلى الرغم مما قد يوجد من استثناءات توحي بعدم المناسبة فإنه حقٌّ على المفسر أن يتطلب مناسبات لمواقع الآيات ما وجد إلى ذلك سبيلا موصلا(13)، ولكن عليه أن يتفادى التكلُّف في ذلك.
ومن قبلِ ابنِ القيم بقرون كان الأصوليون والمفسرون قد تنبهوا مبكرا إلى ذلك؛ فالإمام الشافعي ذكر مصطلح “السياق” في “رسالته” وتنبه إلى دوره في تحديد دلالات الألفاظ القرآنية وتفصيل مجملها وتخصيص عامّها، ولعله هو أول من استعمله – من علمائنا القدامى- استعمالا اصطلاحيا مدققا، وقد أحسن الشافعي استثمار هذه الأداة ولا سيما في التفريق بين نمطين نصيين هامين تعبر عنهما الثنائية الدلالية: العام والخاص، وهي من الثنائيات التي جعلوا معرفتها من أجلِّ علوم القرآن كما صرّح الزركشي.
ومما ينم عن فهم علمائنا للسياق ودوره في بيان معنى دقيق أو تخصيص نص مطلق أو تبيان ما أشكل فيه الغرض والقصد أنهم يمتاحون من معطيات السياق ويعتضدون به مطمئنين إلى كفايته الإجرائية حتى قال قائلهم: “من أراد تفسير الكتاب العزيز طلبه أولا من القرآن، فما أُجمل منه في موضع فقد فُسر في موضع آخر”(14) وهي إشارة بليغة “للسياق الأكبر أو العام” للنص القرآني، وهو الإجراء الذي تسمية البنيوية المعاصرة “الناظم المنهجي” أو الذي تسميه بعض مدارسها “الرؤية المنبثقة”، وهذا يقتضي أن المعنى (أو الدلالة) ينبثق من داخل النص ولا يفرض عليه من الخارج…
وقد أخذ بالمنهج السياقي في التفسير جمعٌ من المفسرين في مقدمتهم إمام المفسرين ابن جرير الطبري الذي “جمع بين الرواية والدراية… فهو يسرد الأقوال ويناقشها ويبين أولاها بالصواب، أو يرى رأيا آخر في الآية”(15)، وكثيرا ما يحتكم إلى السياق الخاص أو العام(16)، ومنهم فخر الدين الرازي في “مفاتيح الغيب”، ومنهم جار الله الزمخشري في “تفسير الكشاف”، ومن المحدثين محمد الطاهر ابن عاشور في تفسير “التحرير والتنوير”… ونشير إلى أن حديث علمائنا الأجلاء عن السياق لا يمكن الإحاطة به في هذا المقام لكثرته وغناه. غير أنه قد يؤخَذ على مفسرينا وعلمائنا أنهم لا يلتزمون بالسياق دائما على الرغم من وعيهم بدوره في التفسير، كما قلنا، ولعل ذلك راجع إلى تعدد الأدوات المعرفية التي استخدموها في التحليل، إذ لم يكن السياق هو الأداة المنهجية المهيمنة بل كانت تزاحمها أدوات أخرى من العلوم الأثرية والمنطقية …
يتبع
توفيق- عضو متميز
- عدد الرسائل : 425
نقاط : 1075
تاريخ التسجيل : 09/09/2009
مواضيع مماثلة
» تابع المـنهج السيـاقي ودوره في فهم” النص” وتـحديـد دلالات الألـفاظ.. مع نمـاذج تطبيقــية من القرآن الكريـــم
» تابع المـنهج السيـاقي ودوره في فهم” النص” وتـحديـد دلالات الألـفاظ.. مع نمـاذج تطبيقــية من القرآن الكريـــم
» * تفوق الاناث على الذكور في التعليم .. دلالات ومؤشرات مستقبلية .
» رولان بارت... متعة الكتابة و لذة النص
» كيف نقرا النص الادبي القديم؟ضرب عصافير بحجر واحد
» تابع المـنهج السيـاقي ودوره في فهم” النص” وتـحديـد دلالات الألـفاظ.. مع نمـاذج تطبيقــية من القرآن الكريـــم
» * تفوق الاناث على الذكور في التعليم .. دلالات ومؤشرات مستقبلية .
» رولان بارت... متعة الكتابة و لذة النص
» كيف نقرا النص الادبي القديم؟ضرب عصافير بحجر واحد
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الجمعة أبريل 12, 2024 4:10 pm من طرف سعداوي ربيع
» المتألقه ياسمين ابراهيم
الثلاثاء أكتوبر 10, 2023 8:54 pm من طرف سعداوي ربيع
» إستمتع بخدمة ultimate game pass لجهاز الإكسبوكس و الحاسوب
الخميس نوفمبر 24, 2022 10:35 pm من طرف lmandoo
» ربيع المؤمـــــــــــــــــــن
الثلاثاء نوفمبر 08, 2022 8:11 am من طرف سعداوي ربيع
» مشروع واحة الشاطيء شقق للبيع في مدينة دبي للاستديوهات
الخميس نوفمبر 03, 2022 9:21 pm من طرف lmandoo
» شركة حلول ميج للاستشارات وتطوير الأعمال
الثلاثاء أكتوبر 18, 2022 11:26 am من طرف lmandoo
» نانا اليوم اقوى الخصومات على كل المنتجات
الأربعاء أكتوبر 12, 2022 11:28 pm من طرف lmandoo
» مرام مالك فنانة غنائية سعودية
الإثنين سبتمبر 05, 2022 5:12 am من طرف lmandoo
» موقع تعليمي سعودي لتغطية كافة المناهج
الخميس أغسطس 25, 2022 11:44 pm من طرف lmandoo
» يونيريم للرعاية المنزلية UNIREM Home Care
الأربعاء أغسطس 17, 2022 3:49 am من طرف lmandoo
» ايه افضل بيوتى صالون فى حدئق الاهرام واكتوبر وزايد
السبت أغسطس 13, 2022 3:57 am من طرف lmandoo
» اشطر جراح عام دكتور عبد الوهاب رأفت
السبت أغسطس 13, 2022 2:21 am من طرف lmandoo
» اشطر جراح عام دكتور عبد الوهاب رأفت
الثلاثاء أغسطس 09, 2022 1:47 am من طرف lmandoo
» ايه افضل بيوتى صالون فى حدئق الاهرام واكتوبر وزايد
الثلاثاء أغسطس 09, 2022 1:37 am من طرف lmandoo
» مصممة الازياء رنا سمعان من نينوى العراق إلى العالمية
الإثنين أغسطس 08, 2022 3:45 am من طرف lmandoo