التجريب في القصة القصيرة جداً ( مقاربــــــة نصية ) . سعـــد العنابي .

التجريب في القصة القصيرة جداً ( مقاربــــــة نصية ) .
الدكتــــــور : سعـــــــد العنابي .
ـــــــــــــــ
شهد تاريخ الأدب تحولات بنيوية كبرى في أجناسه وأنواعه المختلفة ولاسيما النص السردي منه الذي شهد تطورا كبيرا في تاريخه الطويل .و تعد القصة القصيرة جدا – التي سنطلق عليها - ق.ق.ج بعد الآن- حلقة هامة في سلسلة التطور السردي الذي بدأ بعد تحول الأسطورة إلى الملحمة ومن ثمَ الأنواع القصصية بإشكالها الأخرى ,المتنوعة والمختلفة والمتغيرة أيضا .ولعل هذا التطور الهائل في بنية النص السردي قد انبثق من رؤية إنسانية للكون وتقلباته تنطلق من لحظة وعي إنسانية للعلاقة الجدلية بين الكون والإنسان التي سرعان ما يحولها الإنسان/المبدع إلى وسائل تعبير أدبية تنطلق من هذه اللحظة لتصفها وتتجاوزها في آن واحد.
لقد ظهرت ال (ق.ق.ج) لتعبر عن عصر ُهمِشَ فيه الإنسان المعاصر وسُلبت إرادته وسحق تحت قهر الآلة الحديثة وما أفرزته من تداعيات اقتصادية واجتماعية وسياسية وعسكرية وحروب وإرهاب هنا وهناك وصراعات اجتماعية وما رافق ذلك من تحولات ثقافية هامة تشكل وعي إنساني جديد ورؤية فكرية لهذا العالم وتقلباته الهائلة وتناقضاته المستمرة.
إن ال(ق.ق.ج) هي الانجاز الأدبي السردي الأهم والأحدث والأكثر انتشارا من بين الأنواع الأدبية المعاصرة لما تتميز به من جمال لغتها وأسلوبها وقدرتها على الربط بين السردي والشعري وتحويل اللغة العادية اليومية إلى لغة أدبية ورؤية تحول العالم المتناهي في الكبر إلى عالم متناهي في الصغر بوساطة إيقاعات داخلية تحتفظ بالبنية السردية من جهة وتمتح من ينابيع الشعر لغتها وصورها ورموزها من جهة أخرى.
وهكذا تجلت بوصفها تحولا جوهريا وتمردا على بنية السرد القصصي وأنزياحا عن خصائص ميزته تاريخيا مثل الطول النسبي والتقصي الدقيق لتفاصيل الأشياء وتعدد الشخصيات والأمكنة واختلاف الأزمنة السردية وتعدد الأنساق الحدثية .
لتتمظهر بوصف نصا سرديا قصيرا جدا مكروياً ولكن بلغة شعرية مكثفة تلمح ولا تصرح وتتميز بالتركيز والتكثيف اللغوي ويحمل لغة الحلم الإنساني الذي يحاول أن يغير ويقاوم محاولات سحق الإنسان وإلغاء إنسانيته من خلال نص أدبي جديد يمثل تغيرا جوهريا في السرد الأدبي ووسائل التعبير الأدبية لأن الرغبة الملحة في التغيير لابد أن يكون لها دوافع جوهرية .
لقد كانت ال(ق.ق.ج) ولما تزل من أكثر الأنواع السردية ارتباطا بقضايا الإنسان المعاصر والتحولات الجوهرية التي شهدها العالم في العقود الأخيرة بفضل إضطراد التطور العلمي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي والتطور في عالم الاتصالات الذي جعل العالم قرية صغيرة بحيث تحول العالم إلى نسق ثقافي وحياتي برغماتي محض ينحاز للمادة ضد الروح والآلة ضد الإنسان .. وفي هذه اللحظة الحرجة من حياة الإنسانية بدأ الإنسان يشعر بدوام الاضطراب النفسي ويبحث عن وسائل تعبير ملائمة للعصر تعبر عنه وتجيب عن تساؤلاته الوجودية الملحة (من أنا ؟ كيف؟ لماذا؟... الخ الخ الخ ) فكانت ال(ق.ق.ج) صورة العصر وحساسيته وذائقته المنفتحة على الأجناس الأدبية كلها حتى أنها تعد جسرا بين الأجناس الشعرية والسردية والدرامية وكأنها صورة لانفتاح العالم وذوبان الحدود بل هي قرية العالم الصغيرة.
وبقدر ما كانت ال(ق.ق.ج) ذائقة العالم وحساسيته ووسيلة سردية للتعبير عن الهم الإنساني المعاصر فهي أيضا نص تجريبي دائم التطور من داخله من حيث لغته وأساليبه وصوره وموضوعاته وهي نوع سردي لم يقف عند حد ولم يثبت على صورة ولعل في ذلك أهميتها ونمائها وتطورها وقدرتها على التحليق بالقارئ بعالم الحلم والجمال من خلال اعتمادها رهافة الحس و نصوع الرؤية والتكثيف اللغوي والدلالة المنفتحة على آفاق قرائية متعددة .
تأسيساً على ما سبق سنحاول قراءة هذا النص السردي المثير للجدل والصعب المراس قراءة نصية في محاولة للقبض على أهم ملامح التجريب بنية سردية وأسلوبا شعريا وبُنى دلالية.

1
افق التجريب:

يعد الأدب واحد من أكثر الفنون التعبيرية تطورا وتحولا وتغيرا في أجناسه وأنواعه وبُناه الدلالية والأسلوبية فهو صيغة تجاوز وتطور مستمر ودفقا متواصلا من التجريب الذي يحول النص من شكل إلى آخر ومن نسق إلى آخر لأنه محكوم بوضع تاريخي محدد بالتفاعلات والتطورات الثقافية والحياتية كلها لذلك فهو لحظة1 وعي إنسانية تنطلق من أنساق العلاقة بين الإنسان والكون والتطورات الجوهرية التي تغير الحياة الإنسانية من حقبة ثقافية إلى حقبة ثقافية أخرى .
ولاشك أن النص السردي واحد من أكثر الأجناس الأدبية تطوراً وتحولاً فقد مر بسلسة من التطورات الجوهرية منذ النص الأسطوري إلى الرواية فهو نص متمرد على الثبات والجمود والنوع لذلك يعد نصا خارقا للأنواع وجامعا2 لها في آن واحد غير أن التطور الأهم والأحدث كان مع انبثاق ال (ق.ق.ج) التي ظهرت بوصفها نصا سرديا تجريبيا يتجاوز النصوص السابقة ويحطم والاشتراطات التجنيسية وحدودها وسدودها لينفح على الأجناس الأخرى لما يتسم به من سمات فنية تجمع السردي والشعري مع الدرامي حتى يمكن تسميته بنص الجسر فهو نص يحتفظ بالبني السردية والدرامية وينفتح على لغة الشعر المكثفة والمجازية ...
وتعد الكاتبة الفرنسية (نتالي ساروت) أول من كتبت نصوصاً سردياً (ق.ق.ج) على نحو متواصل وتمتاز ببُني فنية وجمالية ودلالية تشكلا اختراقاً أدبياً للمألوف السردي عندما نشرت نصوصاً سمتها انفعالات3بين عامين 1932-1933 وهي أول مجموعة متكاملة وإن كان همنغواي4 قد أطلق على إحدى قصصه (ق.ق. ج) عام 1925.غير أنها لم تتحول إلى ظاهرة أدبية نصية إلا مع (ساروت) وبعد ذلك انتشرت في أمريكا اللاتينية وغيرها من دول العالم .
ولأنعدم في الثقافة العربية أن نجد روادا كتبوا ال (ق.ق.ج) ولعل في مقدمتهم الرائد العراقي نوئيل رسام الذي كتب قصة قصيرة جدا بعنوان (موت فقير) وأخرى بعنوان قصة قصيرة جدا عام 1930 وكذلك يعد المبدع محمود علي السعيد واحد من اهم روادها فقد كتب اكثر من قصة في سبعينيات القرن المنصرم واصدر مجموعة في منتصف السبعينيات5 وهذه المحاولات أيضا لم تعدو المحاولات الفردية ولم تتحول إلى ظاهرة فنية إلا بعد أن ترجمت نصوص (ساروت) بكتاب اسمه
( اعترافات) ترجمة فتحي العشري عام 1971 في مصر وقد اتسم المترجم بوعي نقدي مميز عندما كتب تحت العنوان قصص قصيرة جدا . ولعل البداية الحقيقة الأولى لهذا الفن في الثقافة العربية كانت بعد انتشار هذا الكتاب لينتشر هذا النوع الأدبي في الوطن العربي كله.
لقد تواصلت إبداعات كتاب ل(ق.ق.ج) على نحو كبير ومميز جعل منها ظاهرة أدبية جديرة بالتأمل والدراسة فقد استفزت إمكانات الكتاب وإعجاب المتلقين ورؤى النقاد على نحو غير مسبوق و على الرغم من كثرة المعترضين فان ذلك لم يحد من انتشارها وتطورها شانها شان أي إبداع تجريبي جديد فالتاريخ الأدبي يتحدث دائما عن أدباء مبدعون اجترحوا انساقاً أدبية جديدة ثارت لها ثائرة المعترضين الداعين للحفاظ على الأنساق القديمة من دون أن تشكل هذه الثورة وهذه الاعتراضات أية عوائق أمام انتشارها 6وتطورلإنها نص سردي تجريبي ثاثر على المألوف و لما يزل يواصل صيرورته الثقافية وتشكله الفني ورؤيته الدلالية لذلك فهو أكثر الأنواع السردية تحولاً وتطوراً وتمرداً على السائد والمألوف في عالم السرد وينتج فضاءه ولغته الخاصة التي تتميز بالإيجاز والتكثيف والمجاز فضلاً عن قصر الحجم ومع استيعاب البنية السردية كاملة .
وهكذا تتمرد إل(ق.ٌق.ج) حتى على التوصيف والتسمية فقد كثرت التسميات (أقصوصة - قصة قصيرة جدا – لمحة - جدحة وقصجة وغيرها......).حتى أن البعض خلط بينها وبين قصيدة النثر لاشتراكها في لغة الشعر والمفارقة والمجاز غير أنها تتميز بالبُنية القصصية السردية لأن أية تجربة سردية يجب أن تنطوي على مكونات البُنية السردية من راوٍ ومروي ومرويٌ له وإلا تكون خارج إطار بنية السرد بخلاف قصيدة النثر التي لا تنطوي على البُنية القصصية على نحو مهيمن. فال(ق.ق.ج) إذا سرد بلغة شعرية لان كل نوع أدبي يخلق سياقه الخاص وهو سياق لغوي وثقافي وسوسيولوجي 7 وهي بذلك أصعب الأنواع الأدبية والسردية ولا يعتلي صهوتها8 لا مَن كان مبدعا مميزا له تجارب هامة بعالم السرد والشعر في آن وخيال إبداعي خصب.لأنها نوع أدبي ينتمي لعالم السرد غير أنه يتطلب موهبة استثنائية مميزة ومخزونا معرفيا بالأجناس الأدبية 8. والسردي على نحو خاص لأنه نص متحرك متموج غير قابل للسكون9 والثبات ويستمد قوته واستمراره من مكوناته التي تغذي وثري استراتيجيه النصية لذل فهو دائم التطور والتحول وتضاعف طاقاته الدلالية بحيث يتمظهر النص السردي تمظهراً جديداً وخلاقاً يتم فيه استنطاق المخبوء واستدعاء طاقة اللغة التعبيرية إلى أقصاها.
لقد حققت ال(ق.ق.ج) حضورها الميز والمؤثر الفاعل في الخطاب السردي العربي والعالمي لما تمتلكه من إمكانيات جمالية وقدرات تعبيرية ولغة رمزية تجعلها أكثر جرأة بالتعبير لتنشئ عالما أدبيا مستمدا من الواقع ومفارقا له في آن لان الأدب ينتمي للعالم الذي يخلقه الأديب لا الذي يعيشه ويراه 10 بوساطة نص سردي يستوعب الرؤية والحدث والموقف الإنساني بلغة إبداعية مكثفة وسرد خاطف وخيال جامح متجردة عن التفاصيل السردية وتتبع الأشياء والأوصاف التي تتميز بها القصة القصيرة 11.والرواية لتتمظهر بوصفها بُنية سردية تتميز بالإيجاز والتكثيف من الناحية الشكلية وتنفتح فيها الدلالة على أفاق متعددة ومختلفة فهي نص جامع يستفيد من الأجناس الأخرى (الشعرية والدرامية) 12
و تتميز ال(ق.ق.ج) بأنها أكثر النصوص السردية مشاكسة وتمردا على السائد والمألوف الأدبي وتداخلا مع وسائل التعبير الأخرى من خلال قدرتها على استيعاب انساقا أدبية و النصوص الأخرى بوساطة تقنية التناص وإعادة قراءتها وتشكيلها على نحو جديد .فضلا عما تتميز به من خصائص سردية ولغوية شعرية تعطيها سماتها الخاصة التي تميزها عن غيرها من النصوص والأنواع السردية الأخرى وجعلها أكثر النصوص الأدبية قدرة على تصوير الحياة و ومشكلاتها بوساطة بناها الفنية والدلالية. بل ولعها أكثرها قدرة على التجريب والتحول فهي نص لما يزل تجريبي دائم التحول والتطور مستمر بمغامرة التجديد بعيدا عن الخمول والثبات 13ولم تستقر على شكل بنيوي واحد ولا رؤى ثقافية وإيديولوجية بعينها إنها نص قادر على إمتياح من كل وسائل التعبير الأخرى وقادر أيضا على خلق أنموذجه المتطور غير القابل للثبات لان كل أنموذج قار هو نسق يعاني من التأزم وفي طريقه للانهيار والتلاشي لأنه لم يعد قادرا على استيعاب مظاهر التجديد أما ال(ٌق.ق.ج) فقد استوعبت مظاهر التجديد والتطور الخارج نصية وتحويلها إلى سمات نصية ولعل هذا ما جعل النقاد يعدونها أصعب الأنواع الأدبية وإن كتابتها (تحتاج إلى مهارة اكبر وتكثيف اشد وبراعة أعظم مما تتطلبه القصة القصير).14
ولعل هذا ما جعل منها نصا تجريبا يحاول خرق المألوف ويتجاوز الثابت ويحطم المستقر من الأنساق الأدبية الموروثة ويتكفل بالتعبير عن ذاته المغايرة على نحو يتطابق مع الوعي المعاير في البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية 15 وبناء نسق سردي جديد يرتكز إلى سجل سردي حداثوي مستمر الصيرورة له نواميسه الخاصة وقوانينه الداخلية الحداثوية والمتجاوزة للتقاليد النصية القارة والتي تشكل عائقا معرفيا أمام الثورة على المألوف وتأسيس الجديد وإبداعه وهنا تكمن أهميتها لان الفن العظيم هو الذي يزعزع المألوف العادي ويتجاوز قيمه الدلالية والجمالي16ويؤسس قيما جمالية ودلالية أخرى متجاوزة لما هو كائن وساكن وتقليدي من خلال سعيها الى الاختلاف البنيوي وابتكار بنى جيدة تحدد اليات اشتغال سردية مبتكرة فقد انفتحت على تقنيات الحساية 17الجديدةالمنولوج الداخلي وحضور الحلم والاسطرة واستحضار السياق الثقافي القديم وتكسير الزمن بل تخطية وتجاوز الوصف والمزيد من الحوار وتفتيت الشخصية داخليا وخارجيا والرؤية بعين الباحث والحدث القصير كما سنرى في المقارات النصية للاحقة .

2
بنى النص التجريبية:
1- السردي والشعري

ولم تكن نصا تجريبيا لو لم تتصف بجملة سمات تجريبية فضلا عن سماتها الخاصة بها يمكن استخلاصها من خلال القراءة النصية ولعل أهمها:
1- هي خرق للمألوف السردي فقد تجاوزت اغلب التفاصيل السردية مع احتفاظها ببنية السرد ولكن بوساطة الرمز والإشارة بخلاف الأنواع السردية الأخرى التي تعنى بتتبع الزمان والمكان والشخصيات وتمشهد الأحداث والحوار على نحو مطول فهي انزياح عن سلطة الأنموذج السردي وانحياز لسلطة التجريب
2- الانفتاح على النص الشعري وكسر الحواجز بينه وبين السرد فقد استخدمه اللغة الشعرية وجماليات الرمز والصورة مما وفر مادة تجريبية للكُتاب يستخدموها على نحو متواصل . بحيث تنتج جماليات قصصية متميزة على النصوص السردية السابقة
3- تهديم اللغة الجمالية القارة وإجتراح لغة جديدة موحية تجريبية مقاربة للواقع ومفارقة له في الوقت نفسه تقترب من الإيحاء بالتوقع واستثمار شعرية خلخة توقع القارئ فهي نص ينتج بإشراك القارئ وجعله بنية نصية منتجة من خلال لغة نصية تدخل القارئ إلى عالم النص.
4- هي سرد ينظم قوانينه الداخلية التي تميزه عن غيره فالقص يستدعي بنية سردية والقصر جدا يستدعي وسيلة جمالية أخرى تشير إلى الأحداث والبُنى السردية من دون ذكرها.
5- تشكل تحطيما للتقاليد السردية التي تشكل عائقا معرفياً أمام الثورة والإبداع من خلال تفجير لغة السرد وجعلها قادرة على الحكي والتمرد على المألوف والسائد وتجاوز كل ماهو مألوف في سبيل فتح صفحة جديدة في تاريخ الأدب السردي.
6- تنهض على ثنائية المؤلف والقارئ واستثمار نشاطه في التجريب النصي
7- هي بنية نصية تتميز بهوس دائم للبحث عن المغاير إلا نهائي وغير المألوف واجتراح بُنى نصية متجدد متجاوزة لبنات جنسها حتى أننا لا نكاد نرى قصصاً كثيرة متشابهة لذلك هي تجريب مستمر لان الأدب يموت من دون التجريب وهي مغامرة مستمرة بالتجريب وعدم التوقف عند حد معين من التجديد وغير قابلة للتوقف
8- لغتها تحمل عالما شاسعا من الدلالات المختلفة والمغايرة والمنطلقة من العالم الحياتي والمتجاوزة له إلى العالم الأدبي الذي يتميز بقيم جمالية ورؤى دلالية
9- قوضت النمذجة السردية في نصوصها السابقة عليها من حيث بناها الفنية والدلالية والأسلوبية .. وأنتجت أنموذجاً سردياً جديداً يعد أنموذجا حركيا متواصل التغيير والتطور يعشق التمايز وينفر من التطابق الذي ترسخ الانزياح عنه.
10-تعد نصا سرديا شغوفا بالإيهام مراوغ ومخاتل ينزع للتجاوز والمجازفة في مسار تجريبي جديد وعدم الثبات على حال واحدة .

وهكذا تبين أن ال( ق.ق.ج) نصٌ سرديٌ تجريبي متجاوزاً لمنظومة القيم السردية السابقة عليه رافضاً لما هو مألوف وسائد , متميزاً بقدرته على عدم التوقف عن البحث عن كل ما هو جديد وتجريب الإمكانات الأدبية كلها لغةً وأسلوباً ودلالة من أجل إبداع الجميل والمدهش .

2
وكما وتنطوي على سمات نصية تحدد انتماءها لسجل النص السردي من جهة وتميزها عن النصوص السردية الأخرى من جهة أخرى ولعل أهم هذه السمات هي:
1- تنطوي على البُنية السردية المتكاملة غير أنها مكثفة تتميز بالإيجاز الشديد خالية من الاستطراد والاسترسال.
2- قصيرة الحجم إلى حد كبير جدا فقد لا تتجاوز عدة كلمات فهي قصة الحذف والاقتصاد اللغوي مع انفتاح دلالي , أي تتميز بقلة الكلمات ووفرة المعاني
3- تصور لحظة إنسانية شعورية منتقاة بدقة فائقة تصور بوساطة آليات سردية وشعرية تتضافر كي تقدم نصاً سردياً مميزاً يعتني بوحدة الحدث.
4- تصور الشخصيات وهي تفعل لا تنفعل فهي تهتم بالحدث وتجعله أكثر إثارة للتتبع والتساؤل الوجودي.
5- لغتها مكثفة تعتمد الرمز والمجاز بعيد يعد النص كله استعارة تمثيلية كبرى
6- الحضور الطاغي للراوي على حساب مكونات السرد الأخرى.
7- يغلب عليها الطابع الغنائي والفردي رمزا لما هو جمعي وعام
8- تشرك القارئ بإنتاج بنيتها الدلالية وذلك لانطوائها على بنية مواربة وزئبقية متعددة المعاني والدلالات.
9- تعتمد على المفارقة في خاتمتها التي تعد شرطا أساسيا لها فهي تفاجئ القارئ بنهاية غير متوقعة ولا متسقة مع البداية ولعلها هنا تفضح التناقض الجوهري بين جوهر الحياة وما ينبغي أن تكون عليها وبين مظهرها المادي المعاصر عن طريق الإشارة التضادية المكثفة وإدهاش القارئ
10- التخلص من الشخصية التقليدية وأوصافها وتسليط الضوء على أفعالها والأدوار والمواقف
11- تتميز بشيوع الجمل الفعلية على الجمل الوصفية
12- تعد نصا جامع للأنواع إذا تمتح من سمات عدد من الأجناس الادبية فهي منظومة متكاملة من السرد والشعر والدراما .وهي نص متغير متشابك مع النصوص الأخرى
13- تعد أكثر النصوص السردية جرأة في موضوعاتها وبنيتها الدلالية
14- تستوعب الرؤية والحدث والموقف الإنساني بطريقة إبداعية محددة ومكثفة
15- تعتمد السرد الخاطف والخيال الجامح بحيث تتميز بالإيجاز الشديد في بنيتها النصية والانفتاح على رؤى دلالية متعددة
16- تقدم الصراع السردي في لحظة الذروة من خلال تقديم انطباع سردي واحد بحيث تتخلص من السبب والنتيجة في سير البنية السردية
17- التركيز على شخصية مركزية واحدة ليكون رمزا لما هو جمعي
18- تربط الحدث بالشخصية ارتباطا لا إنفصام فيها
19- تترك مساحة تأويلية شاسعة للقارئ
20- تفجر طاقات الموقف السردي الواحد بالتركيز على نقاط التحول
21- تجرد الراوي عن التعليق
22- تركز على لحظة شعورية يتناقض فيها الداخل إنساني مع خارجه
23- تقديم الأفعال في لحظة فاعلة سريعة بحيث تتلاحق الأحداث وترقص على إيقاع العصر السريع وأحداثه المتلاحقة

وهكذا تعد ال(ق.ق.ج) نصا سرديا حديثا تجريبيا معاصرا يمتاز بقصر الحجم مع تكامل المنظومة القصصية والإيحاء والرمز واللغة الشعرية فضلا عن خاصية التلميح والجمل التصويرية والتوتر والتأزم بالمواقف والإحداث فضلا عن سمات الحذف والإضمار...
الهوامش والإحالات
1- ينظر : سعد عبد الحسين العتابي , الملحمية في الرواية العربية المعاصرة ,بغداد ,ط1 2001ص42
2- ينظر :رولان بارت , النقد البنيوي للحكاية ,ت انطوان ابو زيد , مشورات عويدات , بيروت –باريس , ط1 1988 , ص98.
3- ينظرهيثم بهنام بردى, الليلة الثانية بعد الالف –قصص قصيرة جدا-, العراق –نينوى- , ط1 1996,ص 5
4- ينظر :نجم عبد الله كاظم , الادب المقارن , عمان ,ط1 .2001,ص29
5- ينظر : هيثم بهنام بردى ,ص6
6- ينظر :بنديو كروتشه,المجمل في فلسفة الفن , تسامي الدروبي ,القاهرة ط1974,ص71-73
7- ينظر فاضل ثامر : النص بوصفه اشكالية في النقد الادبي ,مجلة الاقلام .بغداد. العدد 3-4 سنة 27 شباطم اذار 1995.ص150
8- ينظر : د.نضال الصالح ,القصة القصيرة في سوريا ,دمشق, ط1’ 2005,ص89
9- ينظر:د.غالي القرشي , نص المراة-فن الحكاية والتاويل ,ط1,دمشق,2000.ص 19
10- ينظر:نورثوب فراي ,ت حنا عبود ,ط1 دمشق 1995 ص12
11- ينظر : ت فرانك اوكونرد,ت محمد الربيعي , القاهرة ,ط1 1993ص
12- ينظر : احمد جاسم الحسين , القصة القصيرة جدا ,دمشق ,ط1 1997,ص25
13- ينظر ,التجريب في المسرح –دراسات ومشاهدات في المسرح الانكليزي – ,د.صبري حافظ ,ط1, القاهرة 1988.ص7
14- مشترك. فن كتابة الاقصوصة ,ت كاظم سعد الدين , الموسوعة الصغيرة العدد 16,بغداد ط1 1987,ص24
15- ينظر:شعرية القصة القصيرة جدا,جاسم خلف الياس , دمشق ,ط 1, 1010ص97
16- ينظر:طراد الكبيسي . النقطة والدائرة , بغداد, ط1 1987,ص83
17- ينظر : اطياف الوجه الواحد , نعيم اليافي –دراسات نقدية في النظرية والتطبيق –دمشق,ط1 1996ص158