مـــــــــــــــــــــواعظ
من فضل الله على عباده تتابع مواسم الخيرات ومضاعفة الحسنات فالمؤمن يتقلب في ساعات عمره بين أنواع العبادات والقربات فلا يمضي من عمره ساعة إلا ولله فيها وظيفة من وظائف الطاعات وما أن يفرغ من عبادة إلا ويشرع في عبادة أخرى ولم يجعل الله حدا لطاعة العبد إلا انتهاء عمره وانقضاء أجله.
وبعد ان اتم الله لنا نعمة اكمال شهر الصيام والقيام ورتب عليه عظيم الأجر والثواب صيام ست أيام من شوال التي ثبت في فضائلها العديد من الأحاديث منها ما رواه الإمام مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال : ( من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر
المواضيع الأخيرة
بطاقات اسلامية
أدعية رمضانــــــــــية
فجائعية السرد ومأساوية اللغة في رواية صلاة الوداع لكمال بركاني ...
صفحة 1 من اصل 1
فجائعية السرد ومأساوية اللغة في رواية صلاة الوداع لكمال بركاني ...
فجائعية السرد ومأساوية اللغة في رواية صلاة الوداع لكمال بركاني ...
بقلم :
الشاعر فتحي منصورية
على عتبات صلاة الوداع تستوقفنا مراسم الحزن الأخيرة كي تطلب منا الإغتسال قبل الولوج إلى محرابها الزكي ، لنلقي آخر نظرة على فصول الوداع المهيب ، على جثمان هذا الوجود الطاعن في الحزن ، لنفتح بذلك مغاليق الذاكرة التي تراكمت في سراديبها الأمنيات ونعيد تشكيل بعض المشاهد التي ألفناها وما ارتوينا من عناقها السرمدي ، وبعض المشاهد التي غادرناها مجبرين على البكاء المرير كلما تذكرنا أصحابها...
على عتبات صلاة الوداع تستوقفنا مراسم الحزن الأخيرة كي تطلب منا الإغتسال قبل الولوج إلى محرابها الزكي ، لنلقي آخر نظرة على فصول الوداع المهيب ، على جثمان هذا الوجود الطاعن في الحزن ، لنفتح بذلك مغاليق الذاكرة التي تراكمت في سراديبها الأمنيات ونعيد تشكيل بعض المشاهد التي ألفناها وما ارتوينا من عناقها السرمدي ، وبعض المشاهد التي غادرناها مجبرين على البكاء المرير كلما تذكرنا أصحابها...
وتنطلق اللغة البركانية في موكبها الجنائزي في شوارع لمصارة ، إنها لحظات الصمت الرهيب والحزن الذي يبدل معالم الاشياء ، ويصطبغ المكان برائحة الحب والموت معا ، ببياض الذكرى وما يخبأه من سواد الرحيل ، ويتبلل النص بدموع الفراق المريرة تتهاطل لتغسل شوارع لمصارة من الزيف الذي لحق بها في آخر منعطفات الذاكرة ، وصولا بالنعش إلى مرقده الأول هناك حيث ترقد لالا كلثوم ، مضطجعة تتحصن بين أشجار الأرز الشامخة ترقب عن كثب أحفادها وهم ينطلقون بمهل إلى حيث يمكن للدم أن يسري عن نفسه .'1' و لالا كلثوم إمرأة منتصف المسافة بين المجيء والغياب بيضاء السحنة خضراء العينين مريمية الجديلة ترتدي فستانا طويلا أخضر وتضع على كتفها شالا أصفر وتصبغ رجليها بالحناء البربرية الحمراء اللون وكان الجميع يراها ، و كلما لمحت أحدا ابتسمت له ولوحت له بيديها ثم تختفي كأنها لم تكن غير طيف خيال '2'.
من هنا تنطلق فصول الحكاية مع كمال بركاني الذي تنبجس الفجيعة من كيانه انبجاس الماء من الصخر المتين و تتناسل في جو جنائزي مهيب : فتراها تستفحل في جسد الرواية استفحال النار في الهشيم ، فلا يكاء صاحبنا يخلص من فجيعة ما حتى يستيقظ على فجيعة أخرى أشد كربا وأعظم بلاء ، وعلى هذا الهم الفجائعي تتغذى لغة كمال بركاني لتؤسس لنفسها حسها الوجودي ونسقها السردي المتميز عن كل الأنساق الأخرى ، فتغدو اللغة البركانية في الأخير ' حالة من الصراع والظمأ الأنطولوجي الناشئ عن شعوره بالفناء الذي يؤول إليه مصير كل شيء ومن ثم يسعى إلى تجاوز حدود ذاته الإنسانية '3' إنها حالة متفردة من تجاوزية الموت ، والذي أسميه الموت باستحقاق
والذي قادنا إليه هذا الزخم الدلالي الذي ينتجه العنوان ،' فالصلاة من الصلة والوصلة والوصال وهي رحلة المسافر الأبدي نحو المحبوب الذي يرغب الإتصال به وهو تكثيف شعوري يرسخ المعنى ويمنح له بعدا تأثيريا نفسيا يمثل نوعا من الطرب الصوفي الحزين الممتلئ بتوتر الحالة من قلق الرغبة والإنتشاء بفكرة التوحد بروح المحبوب '4'وكذلك ما تنتجه لفظة الوداع من تكثيف دلالي يتمادى في كسر الإيقاع الجميل للحياة وتحويله إلى موال حزين يرسم في بكائية رائعة حنينه للماضي والأجداد : هذا الحنين الذي يتلون باللون الأحمرظل يضمخ الذاكرة البركانية طيلت ثلاث وثلاثين سنة ، لون الدم النقي نقاوة سلالة لالا كلثوم ، والذي يسري في عروق أشجار جبل شلية وفي شوارع لمصارة وسماءها ووديانها ' فالشفق دم أحمر يبتلع كل الفضاء الموحش فأشعر برغبة سرية لبكاء فادح قدري : استسلم لمرضي القدري وأمضي مبتلا برذاذ عرق أجساد نساء عتيقات موشمات الخدود والجباه ، أجدادي كانوا الأروع دوما ، كنت منهكا حين أدرت المفتاح في قفل الباب.'5'.
هكذا جاء العنوان مليئا بالإيحاءات والدلالات السيميائية التي تشير بشكل واضح إلى البنية المضمونية للرواية والتي تتصل مباشرة بالفجيعة المركزية فيها و التي هزت كيانه هزا عنيفا حين خاطبته ابنته الوحيدة إيمان : أبي الخطبة الخميس القادم ...رتبت كل شيء مع سامي ..
وسامي طبعا هو ابن المرأة التي أحبها ذات يوم وكان يفزع دائما من أن يموت وتظل هي وحيدة أسيرة المشاهد العابرة للأحزان ، لكنه يعلم أن موته قريب لأن دمه نقي نقاوة دم لالا كلثوم .
وتتناسل هذه الفجيعة على الجسد والذاكرة البركانية وتنتقل العدوى إلى النص فتصيبه حمى التذكر والبكاء ، فتتحول الأشياء في حضرته إلى صور ضبابية تتحرك باتجاه الماضي في محور عمودي يخلخل أطوار الزمان ليكشف عن جل الطبقات الحزينة فيه :' تراقصت في عيني كل الأشياء ..السقف ..الزرابي ..الرفوف..المرايا ..الأشباح التي تملأ يومياتي .'6'.
ويستمر هذا الفضاء في التحرك في نسقه المكاني المقفر والكئيب الحزين الشاسع بصحرائه ،' هذا الفضاء الذي تتحرك فيه شخوص الرواية حالمة بالحرية والنور والخير والجمال ، لكنها ستصدم بهذا الفضاء الخاوي الملفع بصحراء قاحلة ملتحبة ، عندها تتوه حزينة وتتشرد حاملة يأسها واغترابها القسري وفواجعها .'7'.
كذلك كتب للحب البركاني ألا يتوج بالسعادة في الأخير كما عهدنا كل قصص الحب ، فقد ودعته حبيبته وهو في أوج صدقه وعطاءه لها ، وهذا طبيعي جدا ، صحيح أنهما يريدان تشييد أحلامهما ببيت عائلي صغير وطفلة جميلة سيسمونها أحلام ، ولكن الفراق أيضا يطعم الحب ويعطيه دفقة من الأمل ويبث في عروقه شوقا ونحرقا لهذا الحبيب ، لذلك كان النص البركاني أحوج ما يحتاج إلى لحظات البعاد كي يعيد تشكيل خيوط الذاكرة عبر استحضار سوداوي لكل لحظة صدق ولمسة وفاء عاشها مع محبوته ، وعلى هذا الأساس لو كانت نهاية الحب البركاني بالزواج لما شهدنا هذا الفتح النصاني العظيم وهذه النجوى التى حولت عالم هذه الرواية إلى كتلة بلور تبث أنوارها في كل التخوم لذلك فالحب البركاني ليس حب التقاء وزواج : إنما هوحب بعاد وفراق ، فتكفيه صورة المحبوب في مخياله يتذكرها كي يجدد الدم في هذا الحب ، إن الحب البركاني حب فراق وبعاد وهو الحب الذي لادواء له إلا الموت .
ولكن ورغم حالة الفراق هذه فالروائي لا يستسلم لهذا القدر ، فهو في كل مرة يسائل نفسه ويعترف بإساءته لمحبوبته ، بل يفتش عنها في كل الوجوه عساه يراها تعبر شارعا ، تمتطي سيارة .،
وفي المساء يعود منهكا ، ثم يعاود الكرة في الصباح وفي المساء يعود خائبا أيضا ، إنها الخيبات تتوالد كالفطريات السامة وكذلك تتوالد الفجائع ، فمن سماعه لخبر وفاة جده وهو في السجن ، ثم عودته من السجن إلى مدينته التي فوجئ بتغير ملامحها : ' المشفى اختفت منه المآزر البيضاء ، مسيرات ، كرنفالات مزيفة ، تجمعات ، الصراخ الضجيج ، الجنون ، توابل مدينة مسروقة تتنكر لنا يوميا ، حدائق أغلقت أبوابها في وجه الأطفال ، محلات تغير نشاطها طباع الناس فقدت ألفتها '8'.
إلى سماعه خبر رحيل محبوبته وتزوجها بواحد غير ه ...كل هذه الفجائع وغيرها وفي لغة مأساوية تناوبت على حمل صاحبها حيا في نعش لغوي رهيب ، وها قد أتت الضربة القاصمة ، إنها الفاجعة المركزية ترتدي عباءة أخرى وتصنع مع صاحبنا موعدا آخر للبكاء ، يرن جرس الهاتف دقائق قبل موعد الخطبة : ترفع إيمان السماعة ، ثم تخر مغشيا عليها : انفجر الحزام الناسف بينما كانت ترتديه ، إنها إشراقة جديدة للموت في النص البركاني .
وعل هذا الأساس نميز بين مستويين من السرد : مباشر يتجلى في الصراع بين السلطة الحاكمة الجشعة التي تريد مصادرة حقوق المقهورين وشريحة المخلصين المدافعين عن شرفهم والتي تمثلها شخصية الجد وزيدان البوهالي..
ومستوى آخر رمزي تأخذ فيه الشخصيات أبعادا دلالية تغني النص الروائي وتزيده عمقا بما ينفتح عليه من إمكانيات ودلالات متعددة كشخصية زيدان البوهالي كذلك ..
وأما الرواة فهم قليلون لأن السرد الأساسي ينهض من موقع الراوي (المؤلف نفسه) بضمير المتكلم والذي يستأثر بفعل القص أكثر من غيره : وهذا في رأينا أن الموقع الأيديولوجي والصريح للراوي (المؤلف ) يدفعه إلى التماهي في كثير من الأحيان بشخصيات الرواية مما يحوله إلى مجرد أقنعة مفضوحة لصوته .وهذا يؤدي إلى تراجع السرد الروائي أمام هيمنة الصوت الأحادي للراوي .
وأما النسق الزمني في رواية صلاة الوداع فهو نسق صاعد في تتابع الأحداث ، لكن غالبا ما يخترق بنسق زمني آخر لولبي وهاجسي يعيد الراوي إلى الماضي فينتقل في منطقه حرا في الزمان والمكان ،وذلك عبر تقنية الإرتداد ' وتعني أن يتوقف الراوي عن متابعة الأحداث الواقعة في حاضر السرد ليعود إلى الوراء مسترجعا ذكريات الأحداث والشخصيات الواقعة قبل أو بعد الرواية '9'.
وما يميز صلاة الوداع أيضا أتكائها على البعد الأسطوري وهو في رأيي استثمار للتكثيف والحمولة التاريخية لتحقيق نوع من التراكم الدلالي الهدف منه الإبقاء على الغرابة وخلخلة مخيلة المتلقي وإدخال القارئ في مغامرة إنتاج الدلالة وتخصيب القيم الجديدة .
وكذلك النص القرآني الحاضر في أتون الرواية يمثل الخلفية العقدية والثقافية للراوي ، أظف إلى حضور الهم العربي المتمثل في قضية فلسطين المحتلة وذلك يمثل نوعا من الصراع بين الداخل والخارج على مستويات السرد كما قلنا سابقا.
ومن هنا يحق لي أن أقول أن رواية صلاة الوداع تجربة إبداعية متميزة تفاعل فيها بياض النفس مع سواد الوجود وألم الرحيل مع أمل العودة ، ورأينا فيها كيف شيعت اللغة صاحبها وكيف بكته وكيف تسلل الحس المأساوي إلى الكتابة البركانية، وكيف حدث كل ذلك في تناغمية جميلة وبكائية رائعة جسدت بصدق فرادة وتميز تجربة الروائي كمال بركاني التي تستحق كل الإحترام.
وأخشى ما أخشاه ، أن استيقظ بدوري على فجيعة أخرى: على نداء كمال بركاني : يا فتحي قد ظللت الطريق ..
القيقبة في 15/06/2010
-----------------------------------------
هوامش :
1-رواية صلاة الوداع كمال بركالني –منشورات الإختلاف ط1 2008 ص48
2- الرواية ص06
3-سحر سامي –شعرية النص الصوفي –الهيئة العامة المصرية للكتاب 2005ص 78
4-نفس المرجع ص96
5-الرواية ص7
6-الرواية ص10
7-محمد يونس –الإغتراب في الرواية السورية –مجلة الموقف الأدبي ع333 كانون الثاني 1999
8-الرواية ص60
9-سحر سامي –شعرية النص الصوفي ص168
بقلم :
الشاعر فتحي منصورية
على عتبات صلاة الوداع تستوقفنا مراسم الحزن الأخيرة كي تطلب منا الإغتسال قبل الولوج إلى محرابها الزكي ، لنلقي آخر نظرة على فصول الوداع المهيب ، على جثمان هذا الوجود الطاعن في الحزن ، لنفتح بذلك مغاليق الذاكرة التي تراكمت في سراديبها الأمنيات ونعيد تشكيل بعض المشاهد التي ألفناها وما ارتوينا من عناقها السرمدي ، وبعض المشاهد التي غادرناها مجبرين على البكاء المرير كلما تذكرنا أصحابها...
على عتبات صلاة الوداع تستوقفنا مراسم الحزن الأخيرة كي تطلب منا الإغتسال قبل الولوج إلى محرابها الزكي ، لنلقي آخر نظرة على فصول الوداع المهيب ، على جثمان هذا الوجود الطاعن في الحزن ، لنفتح بذلك مغاليق الذاكرة التي تراكمت في سراديبها الأمنيات ونعيد تشكيل بعض المشاهد التي ألفناها وما ارتوينا من عناقها السرمدي ، وبعض المشاهد التي غادرناها مجبرين على البكاء المرير كلما تذكرنا أصحابها...
وتنطلق اللغة البركانية في موكبها الجنائزي في شوارع لمصارة ، إنها لحظات الصمت الرهيب والحزن الذي يبدل معالم الاشياء ، ويصطبغ المكان برائحة الحب والموت معا ، ببياض الذكرى وما يخبأه من سواد الرحيل ، ويتبلل النص بدموع الفراق المريرة تتهاطل لتغسل شوارع لمصارة من الزيف الذي لحق بها في آخر منعطفات الذاكرة ، وصولا بالنعش إلى مرقده الأول هناك حيث ترقد لالا كلثوم ، مضطجعة تتحصن بين أشجار الأرز الشامخة ترقب عن كثب أحفادها وهم ينطلقون بمهل إلى حيث يمكن للدم أن يسري عن نفسه .'1' و لالا كلثوم إمرأة منتصف المسافة بين المجيء والغياب بيضاء السحنة خضراء العينين مريمية الجديلة ترتدي فستانا طويلا أخضر وتضع على كتفها شالا أصفر وتصبغ رجليها بالحناء البربرية الحمراء اللون وكان الجميع يراها ، و كلما لمحت أحدا ابتسمت له ولوحت له بيديها ثم تختفي كأنها لم تكن غير طيف خيال '2'.
من هنا تنطلق فصول الحكاية مع كمال بركاني الذي تنبجس الفجيعة من كيانه انبجاس الماء من الصخر المتين و تتناسل في جو جنائزي مهيب : فتراها تستفحل في جسد الرواية استفحال النار في الهشيم ، فلا يكاء صاحبنا يخلص من فجيعة ما حتى يستيقظ على فجيعة أخرى أشد كربا وأعظم بلاء ، وعلى هذا الهم الفجائعي تتغذى لغة كمال بركاني لتؤسس لنفسها حسها الوجودي ونسقها السردي المتميز عن كل الأنساق الأخرى ، فتغدو اللغة البركانية في الأخير ' حالة من الصراع والظمأ الأنطولوجي الناشئ عن شعوره بالفناء الذي يؤول إليه مصير كل شيء ومن ثم يسعى إلى تجاوز حدود ذاته الإنسانية '3' إنها حالة متفردة من تجاوزية الموت ، والذي أسميه الموت باستحقاق
والذي قادنا إليه هذا الزخم الدلالي الذي ينتجه العنوان ،' فالصلاة من الصلة والوصلة والوصال وهي رحلة المسافر الأبدي نحو المحبوب الذي يرغب الإتصال به وهو تكثيف شعوري يرسخ المعنى ويمنح له بعدا تأثيريا نفسيا يمثل نوعا من الطرب الصوفي الحزين الممتلئ بتوتر الحالة من قلق الرغبة والإنتشاء بفكرة التوحد بروح المحبوب '4'وكذلك ما تنتجه لفظة الوداع من تكثيف دلالي يتمادى في كسر الإيقاع الجميل للحياة وتحويله إلى موال حزين يرسم في بكائية رائعة حنينه للماضي والأجداد : هذا الحنين الذي يتلون باللون الأحمرظل يضمخ الذاكرة البركانية طيلت ثلاث وثلاثين سنة ، لون الدم النقي نقاوة سلالة لالا كلثوم ، والذي يسري في عروق أشجار جبل شلية وفي شوارع لمصارة وسماءها ووديانها ' فالشفق دم أحمر يبتلع كل الفضاء الموحش فأشعر برغبة سرية لبكاء فادح قدري : استسلم لمرضي القدري وأمضي مبتلا برذاذ عرق أجساد نساء عتيقات موشمات الخدود والجباه ، أجدادي كانوا الأروع دوما ، كنت منهكا حين أدرت المفتاح في قفل الباب.'5'.
هكذا جاء العنوان مليئا بالإيحاءات والدلالات السيميائية التي تشير بشكل واضح إلى البنية المضمونية للرواية والتي تتصل مباشرة بالفجيعة المركزية فيها و التي هزت كيانه هزا عنيفا حين خاطبته ابنته الوحيدة إيمان : أبي الخطبة الخميس القادم ...رتبت كل شيء مع سامي ..
وسامي طبعا هو ابن المرأة التي أحبها ذات يوم وكان يفزع دائما من أن يموت وتظل هي وحيدة أسيرة المشاهد العابرة للأحزان ، لكنه يعلم أن موته قريب لأن دمه نقي نقاوة دم لالا كلثوم .
وتتناسل هذه الفجيعة على الجسد والذاكرة البركانية وتنتقل العدوى إلى النص فتصيبه حمى التذكر والبكاء ، فتتحول الأشياء في حضرته إلى صور ضبابية تتحرك باتجاه الماضي في محور عمودي يخلخل أطوار الزمان ليكشف عن جل الطبقات الحزينة فيه :' تراقصت في عيني كل الأشياء ..السقف ..الزرابي ..الرفوف..المرايا ..الأشباح التي تملأ يومياتي .'6'.
ويستمر هذا الفضاء في التحرك في نسقه المكاني المقفر والكئيب الحزين الشاسع بصحرائه ،' هذا الفضاء الذي تتحرك فيه شخوص الرواية حالمة بالحرية والنور والخير والجمال ، لكنها ستصدم بهذا الفضاء الخاوي الملفع بصحراء قاحلة ملتحبة ، عندها تتوه حزينة وتتشرد حاملة يأسها واغترابها القسري وفواجعها .'7'.
كذلك كتب للحب البركاني ألا يتوج بالسعادة في الأخير كما عهدنا كل قصص الحب ، فقد ودعته حبيبته وهو في أوج صدقه وعطاءه لها ، وهذا طبيعي جدا ، صحيح أنهما يريدان تشييد أحلامهما ببيت عائلي صغير وطفلة جميلة سيسمونها أحلام ، ولكن الفراق أيضا يطعم الحب ويعطيه دفقة من الأمل ويبث في عروقه شوقا ونحرقا لهذا الحبيب ، لذلك كان النص البركاني أحوج ما يحتاج إلى لحظات البعاد كي يعيد تشكيل خيوط الذاكرة عبر استحضار سوداوي لكل لحظة صدق ولمسة وفاء عاشها مع محبوته ، وعلى هذا الأساس لو كانت نهاية الحب البركاني بالزواج لما شهدنا هذا الفتح النصاني العظيم وهذه النجوى التى حولت عالم هذه الرواية إلى كتلة بلور تبث أنوارها في كل التخوم لذلك فالحب البركاني ليس حب التقاء وزواج : إنما هوحب بعاد وفراق ، فتكفيه صورة المحبوب في مخياله يتذكرها كي يجدد الدم في هذا الحب ، إن الحب البركاني حب فراق وبعاد وهو الحب الذي لادواء له إلا الموت .
ولكن ورغم حالة الفراق هذه فالروائي لا يستسلم لهذا القدر ، فهو في كل مرة يسائل نفسه ويعترف بإساءته لمحبوبته ، بل يفتش عنها في كل الوجوه عساه يراها تعبر شارعا ، تمتطي سيارة .،
وفي المساء يعود منهكا ، ثم يعاود الكرة في الصباح وفي المساء يعود خائبا أيضا ، إنها الخيبات تتوالد كالفطريات السامة وكذلك تتوالد الفجائع ، فمن سماعه لخبر وفاة جده وهو في السجن ، ثم عودته من السجن إلى مدينته التي فوجئ بتغير ملامحها : ' المشفى اختفت منه المآزر البيضاء ، مسيرات ، كرنفالات مزيفة ، تجمعات ، الصراخ الضجيج ، الجنون ، توابل مدينة مسروقة تتنكر لنا يوميا ، حدائق أغلقت أبوابها في وجه الأطفال ، محلات تغير نشاطها طباع الناس فقدت ألفتها '8'.
إلى سماعه خبر رحيل محبوبته وتزوجها بواحد غير ه ...كل هذه الفجائع وغيرها وفي لغة مأساوية تناوبت على حمل صاحبها حيا في نعش لغوي رهيب ، وها قد أتت الضربة القاصمة ، إنها الفاجعة المركزية ترتدي عباءة أخرى وتصنع مع صاحبنا موعدا آخر للبكاء ، يرن جرس الهاتف دقائق قبل موعد الخطبة : ترفع إيمان السماعة ، ثم تخر مغشيا عليها : انفجر الحزام الناسف بينما كانت ترتديه ، إنها إشراقة جديدة للموت في النص البركاني .
وعل هذا الأساس نميز بين مستويين من السرد : مباشر يتجلى في الصراع بين السلطة الحاكمة الجشعة التي تريد مصادرة حقوق المقهورين وشريحة المخلصين المدافعين عن شرفهم والتي تمثلها شخصية الجد وزيدان البوهالي..
ومستوى آخر رمزي تأخذ فيه الشخصيات أبعادا دلالية تغني النص الروائي وتزيده عمقا بما ينفتح عليه من إمكانيات ودلالات متعددة كشخصية زيدان البوهالي كذلك ..
وأما الرواة فهم قليلون لأن السرد الأساسي ينهض من موقع الراوي (المؤلف نفسه) بضمير المتكلم والذي يستأثر بفعل القص أكثر من غيره : وهذا في رأينا أن الموقع الأيديولوجي والصريح للراوي (المؤلف ) يدفعه إلى التماهي في كثير من الأحيان بشخصيات الرواية مما يحوله إلى مجرد أقنعة مفضوحة لصوته .وهذا يؤدي إلى تراجع السرد الروائي أمام هيمنة الصوت الأحادي للراوي .
وأما النسق الزمني في رواية صلاة الوداع فهو نسق صاعد في تتابع الأحداث ، لكن غالبا ما يخترق بنسق زمني آخر لولبي وهاجسي يعيد الراوي إلى الماضي فينتقل في منطقه حرا في الزمان والمكان ،وذلك عبر تقنية الإرتداد ' وتعني أن يتوقف الراوي عن متابعة الأحداث الواقعة في حاضر السرد ليعود إلى الوراء مسترجعا ذكريات الأحداث والشخصيات الواقعة قبل أو بعد الرواية '9'.
وما يميز صلاة الوداع أيضا أتكائها على البعد الأسطوري وهو في رأيي استثمار للتكثيف والحمولة التاريخية لتحقيق نوع من التراكم الدلالي الهدف منه الإبقاء على الغرابة وخلخلة مخيلة المتلقي وإدخال القارئ في مغامرة إنتاج الدلالة وتخصيب القيم الجديدة .
وكذلك النص القرآني الحاضر في أتون الرواية يمثل الخلفية العقدية والثقافية للراوي ، أظف إلى حضور الهم العربي المتمثل في قضية فلسطين المحتلة وذلك يمثل نوعا من الصراع بين الداخل والخارج على مستويات السرد كما قلنا سابقا.
ومن هنا يحق لي أن أقول أن رواية صلاة الوداع تجربة إبداعية متميزة تفاعل فيها بياض النفس مع سواد الوجود وألم الرحيل مع أمل العودة ، ورأينا فيها كيف شيعت اللغة صاحبها وكيف بكته وكيف تسلل الحس المأساوي إلى الكتابة البركانية، وكيف حدث كل ذلك في تناغمية جميلة وبكائية رائعة جسدت بصدق فرادة وتميز تجربة الروائي كمال بركاني التي تستحق كل الإحترام.
وأخشى ما أخشاه ، أن استيقظ بدوري على فجيعة أخرى: على نداء كمال بركاني : يا فتحي قد ظللت الطريق ..
القيقبة في 15/06/2010
-----------------------------------------
هوامش :
1-رواية صلاة الوداع كمال بركالني –منشورات الإختلاف ط1 2008 ص48
2- الرواية ص06
3-سحر سامي –شعرية النص الصوفي –الهيئة العامة المصرية للكتاب 2005ص 78
4-نفس المرجع ص96
5-الرواية ص7
6-الرواية ص10
7-محمد يونس –الإغتراب في الرواية السورية –مجلة الموقف الأدبي ع333 كانون الثاني 1999
8-الرواية ص60
9-سحر سامي –شعرية النص الصوفي ص168
فتحي منصورية- عضو جديد
- عدد الرسائل : 9
نقاط : 19
تاريخ التسجيل : 04/07/2010
مواضيع مماثلة
» فجائعية السرد ومأساوية اللغة في رواية صلاة الوداع لكمال بركاني ...
» عين على رواية كراف الخطايا لعيسى لحيلح
» تجربة السرد في القصة الجزائرية
» * الروائي " كمال بركاني " في لقاء أدبي بدار الثقافة " باتنة " .
» قراءة في كتاب : هل بقيت َ حيا ؟ للروائي : عمر مناصرية ...
» عين على رواية كراف الخطايا لعيسى لحيلح
» تجربة السرد في القصة الجزائرية
» * الروائي " كمال بركاني " في لقاء أدبي بدار الثقافة " باتنة " .
» قراءة في كتاب : هل بقيت َ حيا ؟ للروائي : عمر مناصرية ...
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الجمعة أبريل 12, 2024 4:10 pm من طرف سعداوي ربيع
» المتألقه ياسمين ابراهيم
الثلاثاء أكتوبر 10, 2023 8:54 pm من طرف سعداوي ربيع
» إستمتع بخدمة ultimate game pass لجهاز الإكسبوكس و الحاسوب
الخميس نوفمبر 24, 2022 10:35 pm من طرف lmandoo
» ربيع المؤمـــــــــــــــــــن
الثلاثاء نوفمبر 08, 2022 8:11 am من طرف سعداوي ربيع
» مشروع واحة الشاطيء شقق للبيع في مدينة دبي للاستديوهات
الخميس نوفمبر 03, 2022 9:21 pm من طرف lmandoo
» شركة حلول ميج للاستشارات وتطوير الأعمال
الثلاثاء أكتوبر 18, 2022 11:26 am من طرف lmandoo
» نانا اليوم اقوى الخصومات على كل المنتجات
الأربعاء أكتوبر 12, 2022 11:28 pm من طرف lmandoo
» مرام مالك فنانة غنائية سعودية
الإثنين سبتمبر 05, 2022 5:12 am من طرف lmandoo
» موقع تعليمي سعودي لتغطية كافة المناهج
الخميس أغسطس 25, 2022 11:44 pm من طرف lmandoo
» يونيريم للرعاية المنزلية UNIREM Home Care
الأربعاء أغسطس 17, 2022 3:49 am من طرف lmandoo
» ايه افضل بيوتى صالون فى حدئق الاهرام واكتوبر وزايد
السبت أغسطس 13, 2022 3:57 am من طرف lmandoo
» اشطر جراح عام دكتور عبد الوهاب رأفت
السبت أغسطس 13, 2022 2:21 am من طرف lmandoo
» اشطر جراح عام دكتور عبد الوهاب رأفت
الثلاثاء أغسطس 09, 2022 1:47 am من طرف lmandoo
» ايه افضل بيوتى صالون فى حدئق الاهرام واكتوبر وزايد
الثلاثاء أغسطس 09, 2022 1:37 am من طرف lmandoo
» مصممة الازياء رنا سمعان من نينوى العراق إلى العالمية
الإثنين أغسطس 08, 2022 3:45 am من طرف lmandoo